تهذیب الاصول المجلد 1

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: سبزواري، عبدالاعلی، 1288 - 1372

عنوان واسم المؤلف: تهذیب الاصول المجلد 1/ تالیف عبدالاعلی الموسوی السبزواري

تفاصيل المنشور: [قم]: مکتب سماحة آیة الله العظمي السید السبزواري: موسسة المنار، - 1376.

الطبعه الثالثة 1417 ه - 1996 م

ISBN : بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2)

عنوان : أصول الفقه الشيعي

المعرف المضاف: مکتب سماحة آیة الله العظمي السید السبزواري

ترتيب الكونجرس: BP159/8/س22ت9 1376

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 76-8156

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

المدخل

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين

و الصلاة و السّلام على خير خلقه

محمّد و آله الطّيّبين الطّاهرين

و بعد فيقول المفتقر إلى اللّه جلّ جلاله عبد الأعلى الموسوي خلف المرحوم العلامة الجليل السيد علي رضا: هذه خلاصة ما حققناه و حقّقه مهرة مشايخنا - «قدس اللّه أسرارهم» - المبتكرين في هذه الصناعة بعد طول الجهد و تحمّل المتاعب، أبرزتها في أسهل العبارات و أيسر الجملات، خالية عن جميع الزوائد، مشتملة على كثير من الفوائد، و سميتها ب (تهذيب الاصول) عن الزوائد و الفضول، راجيا أن يهذبنا اللّه تعالى عن كل ما لا يرضيه، و يحلّينا بكل ما يرتضيه، و أن يجعله كافيا لصحة الاعتذار في أحكامه المقدسة إلى يوم القيامة.

و منهجنا في هذا الكتاب يخالف ما هو المتبع في سائر الكتب، فهو مؤلف من مقدمة و مقاصد ثلاثة:

1 - المقدمة: و فيها امور عامة.

2 - المقصد الأوّل: في مباحث الألفاظ، و منها المشتق، و مبحث التعارض.

و لكن لما لم تكن لمبحث المشتق فائدة مهمة فقهية جعلناه في المقدمة تبعا للاصوليين.

ص: 5

3 - المقصد الثاني: في الملازمات العقلية بقسميها - المستقلة و غير المستقلة - كمقدمة الواجب، و مسألة الضد، و مسألة النهي في العبادة.

4 - المقصد الثالث: في ما يصح الاعتذار به، كمباحث القطع، و الأمارات، و الاصول العملية، و الاجتهاد و التقليد.

و جميع مباحث الألفاظ ترجع إلى تشخيص صغريات أصالة حجية الظهور، التي هي من أهم الاصول النظامية العقلائية. و حيث أن أساس الفقه مبني على الكتاب و السنّة، و هما بمعزل عن الملازمات العقلية؛ جعلوا بحث الملازمات العقلية في طي مباحث الألفاظ، إلا أننا عقدنا لها بابا مستقلا، و هو المقصد الثاني.

و خالفناهم في مبحث التعارض فجعلناه من مباحث الألفاظ، و في بحث الاجتهاد و التقليد فجعلناه من مباحث ما يصح الاعتذار به.

و لا يخفى أن الاصول مقدمة و آلة للتعرّف على الفقه؛ و ليس هو مطلوبا بالذات، فلا بد أن يكون البحث فيه بقدر الاحتياج إليه في ذي المقدمة، لا زائدا عليه، و أن تكون كيفية الاستدلال فيه مثلها في الفقه في مراعاة السهولة، و ما هو أقرب إلى الأذهان العرفية، لابتناء الكتاب و السنّة اللذين هما أساس الفقه على ذلك، فالاصول من شئون الفقه لا بد أن يلحظ فيه خصوصياته من كل جهة.

ص: 6

مقدّمة و فيها امور عامة

الأمر الأول: تعريف الاصول، و فضله و غايته، و مرتبته

أما تعريفه: فحيث أن علم الفقه ما يبحث فيه عن وظيفة الإنسان من حيث الشريعة.

ثم إن وظائف العباد إما أن تكون متقوّمة بقصد القربة أو لا. و الثانية إما أن تكون بين اثنين أو لا. و الثالثة إما أن تتوقف على الإنشاء أو لا.

فالاولى العبادات، و الثانية العقود، و الثالثة الإيقاعات، و الرابعة الأحكام.

و هذا الحصر عقلي.

هذه هي كبرى الأقسام في الفقه، و إن كان عندهم نزاع صغروي في بعض الأقسام.

فالاصول ما يبحث فيه عن تعيين كيفية تلك الوظيفة، و حقيقته أنها قواعد معتبرة تستعمل في استفادة الأحكام الإلهية، و لا اختصاص له بالمسلمين، بل كل ملة لها وظائف دينية يكون لها فقه و اصول.

و نزاع الأخباري و الأصولي إنما هو نزاع صغروي في بعض مسائل

ص: 7

الاصول، لا أن يمنع الأخباري عن لزوم إعمال القواعد المعتبرة المحاورية في استفادة الأحكام الإلهية عن الكتاب و السنّة.

و يكفي في فضله أنه في الجملة من شئون الفقه الذي هو من أفضل العلوم بعد التوحيد، بل به يستكمل التوحيد، و حيث أنه نفسه مقدمة للفقه يكون فضله فضلا ترشحيا منه.

و أما غايته: فلا ريب في أنه من أفضل الغايات و أعظمها، لأنها الاقتدار على تشخيص الأحكام الربوبية، و تعيين الوظائف الإلهية لعباده، و هذا من فروع النبوة و الخلافة الإلهية.

و أما مرتبته: فهي فوق جميع العلوم الدخيلة في الفقه، فالاصول من حيث المرتبة بداية الاجتهاد و نهاية العلوم الدخيلة في الاستنباط.

الأمر الثاني: المعروف أن كل علم متقوم بالمسائل، و الموضوع، و المبادئ.

و هو بالنسبة إلى الأول مسلّم، لانتفاء العلم بانتفاء مسائله - انتفاء الكل بانتفاء أجزائه - و أما بالنسبة إلى الأخيرين، فلا دليل عليه من عقل أو نقل.

نعم، لو اريد به التقوّم العادي الاعتباري الاصطلاحي، لا الحقيقي، لكان له وجه. و أما القوام الواقعي فليس موضوع العلم و لا مبادئه كذلك، بحيث لو انتفيا لانتفى أصل ذلك العلم، فليس بوجودهما الواقعي، و لا بوجودهما العلمي دخيلا في علميّة العلم.

نعم، الجامع الواقعي بين موضوعات مسائل العالم موجود بلا إشكال، سواء علم به أم لا، فهو أمر تكويني - كتحقق الجنس في أنواعه - و لا ربط له

ص: 8

بالموضوع المصطلح عليه.

إن قيل: نعم، و لكن وحدة كل علم في حد نفسه و تميزه عن غيره يدور مدار وحدة الموضوع و وجوده، فلا بد له من هذه الجهة.

فإنه يقال: لا ريب في أن الوحدة لا تنحصر بوحدة الموضوع، و يمكن اعتبار الوحدة فيه بأي وجه أمكن ذلك، كما في الوحدات الاعتبارية الملحوظة في سائر المركبات المختلفة الأجزاء.

و كذا يمكن تمييزه بالغرض و نحوه مما يصلح لاستناد التمييز الاعتباري إليه.

ثم إن المبادئ إما تصورية، و هي تصور الاصطلاحات الشائعة في العلم قبل الشروع فيه. أو تصديقية، و هي التصديق بثبوت المحمولات المسلّمة الثبوت لموضوعاتها الدائرة في العلم قبل الشروع فيه، و يزيد في علم الاصول مبادئ اخرى اصطلحوا عليها بالمبادئ الأحكامية، و هي عبارة عن الأحكام المنسوبة إلى الشارع - تكليفية كانت أو وضعية - و ترجع إما إلى المبادئ التصورية، أو التصديقية، و ليست خارجة عنهما، كما هو واضح.

الأمر الثالث: تعريف المسألة الاصولية، الفرق بينه و بين القاعدة الفقهية

المسألة الاصولية: ما تقع كبرى في طريق تعيين الوظيفة، بلا فرق بين الأمارات و الاصول العملية و غيرهما. فيقال مثلا: هذا أمر، و كل أمر ظاهر في الوجوب، فهذا ظاهر في الوجوب، و كما يقال: هذا خبر موثوق به، و كل خبر موثوق به حجة، فهذا حجة، أو يقال: هذا مجهول الحكم، و كل مجهول الحكم يرجع فيه إلى البراءة العقلية و النقلية، فهذا مما يرجع فيه إليهما، إلى غير ذلك.

و جميع تلك المسائل لا بد أن تثبت بالأدلة اللفظية في الاصول، و قد وضع هذا العلم لذلك.

ص: 9

و يمكن أن تعنون مسألة واحدة بعناوين متعددة، بعضها تكون اصولية و بعضها فقهية، و بعضها كلامية، و هو شائع في العلوم، فيكون المدار حينئذ على خصوصية العنوان، لا ذات المعنون من حيث هو حتى يلزم التداخل.

و القاعدة الفقهية عبارة عن حكم شرعي ينطبق على مصاديقه انطباق الطبيعي على أفراده، و لا تقع في طريق إثبات شيء أبدا، و لا فرق بينها و بين المسألة الفقهية إلا بالاصطلاح.

نعم، يمكن أن يفرّق بينهما بالاعتبار، بأن يقال: القاعدة نتيجة المسألة بمقدماتها. و كذا الكلام في الفرق بين القاعدة الاصولية و مسألتها.

و الفرق بين القاعدة الفقهية و المسألة الاصولية من جهات:

أولها: أن القواعد الفقهية يشترك فيها العالم و غيره، كسائر الأحكام الإلهية، بخلاف المسائل الاصولية، فإنّها تختص بالعلماء.

ثانيها: القواعد الفقهية يمكن أن تختص بباب دون باب، و هي كثيرة بخلاف المسائل الاصولية، فإنها جارية في جميع أبواب الفقه.

ثالثها: أن المسائل الاصولية نتائجها تقع كبرى في طريق إثبات الوظيفة، بخلاف القواعد الفقهية، فإن شمولها لمصاديقها نحو شمول الطبيعي لأفراده.

رابعها: القواعد الفقهية غالبها من المسلّمات بين العلماء، بخلاف المسائل الاصولية، فلهم فيها اختلاف كثير.

خامسها: أن غالب القواعد الفقهية نفس المضمون الذي صدر عن المعصوم عليه السّلام، و يصح إطلاق الأصل على القاعدة أيضا، إذ لا مشاحة في الاصطلاح، و هي مقدمة على الاصول العملية - سميت أصلا أولا - و اعتبار مثبتاتها يدور مدار القرائن الخارجية المعتبرة، في كل أصل أو أمارة، بلا فرق في التسمية من هذه الجهة أيضا.

ص: 10

الأمر الرابع: الكلام فى ما هو المعروف

المعروف أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، و أن العرض الذاتي ما ينتزع عن ذات الشيء، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة، أو ما لا يكون عروضه على المعروض بواسطة أمر أخص أو أعم.

فاشكل عليهم: بأن محمولات المسائل لا تنتزع عن ذات موضوع العلم غالبا، مع أن جلّ مباحث علم الاصول، يبحث عما يعرض الموضوع لأمر أعم بناء على أن موضوعه الأدلة الأربعة، و لذا عدل المحققون منهم إلى أن المراد بالعرض الذاتي ما لا يصح سلبه عن الموضوع، و إن كان العروض بواسطة بل بوسائط، أي الوصف بحال الذات. و ما صح سلبه عنه يكون عرضا غريبا و إن لم تكن في البين واسطة، أي ما كان من الوصف بحال المتعلق، و لا ريب في أن محمولات مسائل العلوم لا يصح سلبها عن موضوع العلم، كما لا يخفي.

كما أنه لا ريب في أن نسبة موضوع العلم الى موضوعات المسائل نسبة الكلي إلى أفراده و الطبيعي إلى مشخصاته.

ثم إنهم قالوا: إن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، و تمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات. فإن كان نظرهم إلى أن ذلك من أحد طرق التمييز فله وجه، و إن كان نظرهم إلى الانحصار في ذلك، فهو مردود، لإمكان التمييز بالغرض و نحوه أيضا. و بذلك يمكن أن يجمع بين الكلمات.

الأمر الخامس: موضوع العلم الاصول

قالوا: إن موضوع علم الاصول الأدلة الأربعة، إما بوصف الحجية، كما عن بعض، أو بذواتها، كما عن آخر.

ص: 11

و اشكل على الأول: بأنه يلزم أن يكون البحث عن حجية الإجماع و العقل، و ظاهر الكتاب خارجا عن المسائل و داخلا في المبادئ، لكونها بحثا عن ذات الموضوع حينئذ.

و يردّ: بأن ما هو الموضوع إنما هو الأدلة بوصف الحجية الواقعية النفس الأمرية الثابتة لها، و البحث عن حجية الإجماع و العقل و ظاهر الكتاب، بحث عن مقدار الحجية، و كيفيتها، و دفع اعتراض المعترضين عليها، فتكون من المسائل قهرا.

و اشكل على الثاني: بلزوم خروج البحث عن الخبر الواحد، و التعارض و أحكامه عن المسائل، لعدم كونها بحثا عن السنّة، بل بحثا عن الحاكي لها، فيكون من العرض الغريب.

و فيه: أن الخبر الواحد متحد عند الرواة و العلماء، بل المتشرعة من السنة، فيكون عوارض أحدهما عين عوارض الآخر عندهم، فلا وقع للإشكال من هذه الجهة، فيكون بحث خبر الواحد و التعارض و أحكامه من عوارض السنّة.

ثم إنه لا وجه للقول بأن الموضوع هو الأدلة الأربعة، لأن السنّة شارحة للكتاب، و الإجماع و العقل لا موضوعية لهما، بل لا بد فيهما من الكشف عن السنة في الأول، و عدم ثبوت الردع في الثاني. فموضوعه هو الكتاب المشروح بالسنّة أو السنّة الشارحة للكتاب. فيكون تعريفه: أنه ما يقع نتائج البحث عنه في طريق معرفة الوظيفة الشرعية، و لا فرق بين العقل و الشرع إلاّ بما قاله عليه السّلام:

«العقل شرع داخلي و الشرع عقل خارجي».

فالعقل الذي هو أصل الحجج الإلهية إذا ظهر في المظاهر الظاهرية يكون شرعا، و الشرع إذا ظهر في مظهر التجرد يكون عقلا، فلا فرق بينهما بحسب الواقع و الحقيقة.

نعم، العقول الجزئية حيث أنها قريبة من الأوهام و الخيالات فلا بد لها من

ص: 12

أن تكون تحت سلطة الشرع، حفظا للأحكام من أن يتدخل فيها الأوهام و الخيالات.

ثم إن السيرة العقلائية و بناء العقلاء، الذين يتمسك بهما غالبا في الفقه و الاصول، راجعان إلى دليل العقل الذي لم يردع عنه الشرع. و كذا السيرة العرفية و مرتكزات العرف اللتين يتمسك بهما أيضا، و يمكن الفرق بينهما و بين بناء العقلاء بحسب المتعلّق، لا بحسب الذات.

الأمر السادس: تعريف الوضع الفرق بينه و بين استعمال اللفظ

اشارة

الوضع من الامور النظامية يقوم به نظام الاجتماع في الإنسان قديما و حديثا، فاللازم في فهم معناه من الرجوع إلى العرف، و إذا رجعنا إليه نرى أنه عبارة عن:

إظهار المعنى باللفظ حدوثا بداعي كون اللفظ علامة للمعنى و وجها من وجوهه، و لا فرق بينه و بين مطلق استعمال اللفظ في المعنى إلا من وجهين:

الأول: أنه حدوثي فقط بخلاف سائر الاستعمالات، فإنها تتحقق بعده.

الثاني: أنه بداعي كون اللفظ علامة للمعنى و سائر الاستعمالات تكون بدواع اخرى، وجهة الاشتراك في الجميع إظهار المعنى باللفظ و إبرازه به، بلا فرق في ذلك بين الوضع التخصيصي و التخصصي.

نعم الفرق بين التخصيص و التخصص أن كثرة الاستعمال في الثاني لها دخل في الجملة، بخلاف الأول، فإن نفس الاستعمال بداعي كون اللفظ علامة للمعنى يكفي في حصول الوضع. و الدليل على ما قلناه إنما هو الوجدان في الأسماء التي نضعها لأولادنا، و ما حصل من الأوضاع الكثيرة المستحدثة في زماننا.

هذا إذا لوحظ الوضع بالمعنى المصدري، و أما إذا لوحظ بمعنى الاسم

ص: 13

المصدري، فهو نحو ارتباط حاصل بين اللفظ و المعنى ناشئ من تخصيصه به تارة، و من تخصصه به اخرى.

ثم إن من قال بأن الواضع هو اللّه تعالى، فإن أراد الوضع بمباشرته تعالى، كما في مباشرته تعالى لوحي القرآن و التكلم مع موسى بن عمران، فمقتضى الأصل و الوجدان عدمه، و لو كان كذلك لاشتهر اشتهار نسبة الكتب السماوية إليه تعالى في هذا الأمر المهم، و يستفاد من قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها عدم مباشرة الوضع، لأن تعلم الأسماء أعم من مباشرة الوضع، إذ يمكن أن يكون تعالى علّمه لأن يضع آدم بعد ذلك بمباشرته. و إن أراد أن ذلك بإلهام منه تعالى، أو أنه تعالى جعل استعدادا في آدم و بنيه و حصل له الاقتدار به على الوضع، فهو حسن.

كما أن من قال بالمناسبة بين اللفظ و المعنى، فإن أراد بها الذاتية الطبيعية و من تمام الجهات، فهو باطل. و إن أراد لحاظ المناسبة الاعتبارية في الجملة عند الوضع إجمالا و ارتكازا، فله وجه.

ثم إن للوضع أقساما:

منها: الوضع النوعي، كوضع الهيئات.

و منها: الوضع الشخصي، كوضع الأعلام، و أسماء الأجناس.

و منها: الوضع التعييني، و التعيّني، و يسمى بالتخصيصي و التخصصي أيضا، و يمكن أن يصير المجاز حقيقة لكثرة الاستعمال، كما يمكن أن تصير الحقيقة مجازا لهجر الاستعمال، و كل منهما شائع في المحاورات.

و منها: الأصلي و التبعي، و الأول كالمستقلات، و الثاني كالنسب و الإضافات.

و منها: الوضع العام، و الوضع الخاص، أي أن المعنى الموضوع له اللفظ إما عام أو خاص، و على الأول إما أن يوضع له اللفظ، فهو الوضع العام

ص: 14

و الموضوع له العام، كأسماء الأجناس، و هو على قسمين: فتارة يتصور العام بذاته و يضع اللفظ بإزائه، و اخرى يتصور العام من حيث الإضافة إلى الحصص مع قطع النظر عن المضاف إليه و يضع اللفظ بإزاء مثل هذا العام الملصق بالحصص، و يأتي قسم آخر أيضا.

و على الثاني إن وضع اللفظ له، فهو الوضع الخاص و الموضوع له كذلك، كالأعلام، و يمكن أن يكون الأعلام من الوضع العام و الموضوع له الخاص، بأن يلحظ مطلق الذكور مثلا، ثم يضع لفظ (الحسن) للمصداق الخاص، أو يلحظ مطلق الإناث، ثم يضع لفظ (فاطمة) للمصداق المخصوص.

و المعروف أنه لا يصح أن يوضع اللفظ للكلي الذي يكون هذا الخاص من مصاديقه حتى يكون من الوضع الخاص و الموضوع له العام، لأن الموضوع له لا بد و أن يتصور حين الوضع و لو بوجه، و الخاص لا يصلح لأن يكون وجها من وجوه الكلي و العام، بخلاف العكس.

و فيه: أنه لمكان اتحاد العام مع الخاص يصلح لكونه وجها من وجوه العام في الجملة، و هذا المقدار يكفي في تصوره، فلا مانع منه ثبوتا.

نعم، هو غير واقع إثباتا في المحاورات.

ثم إنه لا ريب في وقوع الوضع العام و الموضوع له كذلك، كأسماء الأجناس. و لا في وقوع الوضع الخاص و الموضوع له الخاص، كالأعلام.

و أما الوضع العام و الموضوع الخاص، فعن جمع وقوعه أيضا، كالحروف و ما يلحق بها. و عن جمع آخر أن الوضع فيها - كالموضوع - عام، فينحصر الواقع من أقسام الوضع في القسمين الأولين فقط.

و خلاصة ما استدل به على عدم كون الموضوع له فيها خاصا: أن الخصوصية إما خارجية، أو ذهنية. و على الأول يلزم أن يكون استعمالها بنحو الكلية مجازا، كقولك (من) للابتداء مثلا. و على الثاني يلزم عدم الصدق على

ص: 15

الخارجيات، و كلاهما خلاف المحاورات.

و يمكن المناقشة فيه: أما الأول: فلأن الكلية فيها تبعية على ما يأتي، و الكلية التبعية من جهة لا تنافي الخصوصية من جهة اخرى، كما هو واضح.

و أما الثاني: فلأن الخصوصية الذهنية اخذت مرآة إلى الخارج، فيصح الصدق على الخارجيات قهرا.

نعم، لو قيدت بما في الذهن لا تصدق عليها حينئذ.

و لكنه باطل لا يقول به أحد.

ثم إن لحاظ الاستقلالية في الأسماء، و الآلية في الحروف من دواعي الوضع، لا أن يكون قيدا في الموضوع له، أو المستعمل فيه، فلا وجه لخصوصية المعنى من هذه الجهة في الحروف أصلا، و لا يلزم في كونها داعيا الالتفات التفصيلي، بل يكفي الارتكازية فقط.

هذا، و من ذهب إلى أن الموضوع له فيها خاص قال: إن تقوّمها بالغير أوجب خصوصية المعنى؛ فلا يكون إلا خاصا.

و فيه: أن هذا النحو من التقوّم بالغير لا ينافي الكلية، فالمعنى في حدّ نفسه لا اقتضائي، يكون مع الخاص خاصا، و مع العام عاما.

و الحق أن يقال: إن المعاني الحرفية، و النسب و الإضافات، تكون في الغير من تمام الجهات مفهوما و ذاتا و وجودا، لا في الأخير فقط حتى تكون كالأعراض، بل مفهومها و ذاتها و وجودها، فانيات في الغير فناء تاما و لا نفسية لها بوجه، نظير الربط المحض الذي لا نفسية له أبدا، و ما هي كذلك يكون وضعها تبعيا و غيريا أيضا، فهي مع أسماء الأجناس يكون الوضع و الموضوع له فيها عامين، و في الأعلام يكونان خاصين لأجل تبعيتها المحضة و الفناء المطلق، فيكون وضعها نوعيا تبعيا لمتعلقاتها، إن عاما فعام، و إن خاصا فكذلك.

و ظهر مما مرّ أن الربط ينافي التشخّص مطلقا، فلا وجه لقول الحكيم

ص: 16

السبزواري «ره»: «إن الوجود رابط و رابطي...» مع قولهم: إن الوجود مساوق للتشخّص، و لا تشخّص في الربط المحض، إلا أن يراد به التشخّص التبعي.

ثم إن الأقوال في المعانى الحرفية بين الإفراط و التفريط: فمن قائل بأنه لا معنى لها أصلا، و إنما هي علامات فقط، مثل كون الرفع علامة للفاعلية. و فيه من الفساد ما لا يخفى.

و من قائل بأنه لا فرق بين المعاني الحرفية و الاسمية إلا بلحاظ الآلية في المعاني الحرفية و الاستقلالية في الاسمية، و هو خلاف الوجدان المحاوري و إن أمكن توجيهه بوجه.

و من قائل - و هو الحق - بأنها في ذاتها مباينة مع المعاني الاسمية جوهرا كانت أو عرضا، لأن المعاني الإمكانية إما تحصل في الذهن مستقلا و في الخارج كذلك، و يعبّر عنها بالجوهر بمراتبه الكثيرة؛ أو توجد في الذهن مستقلا و لا توجد في الخارج إلا في الموضوع، و يعبّر عنها بالعرض، أو لا توجد في الذهن و الخارج إلاّ في الغير و بالغير، و يعبّر عنها بالمعاني الحرفية، فلها معان لكن في الغير من كل جهة.

فالمعاني إما للغير و بالغير و في الغير، و هي المعاني الحرفية. و إما بغيره في نفسه، و هي المعاني الاسمية الجوهرية. و إما بغيره في غيره، و هي الأعراض - اسما كانت أو فعلا - و إما لنفسه في نفسه بنفسه، و هو منحصر في اللّه تبارك و تعالى.

هذا، و لكن قد نسب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «الاسم ما أنبأ عن المسمّى، و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، و الحرف ما أوجد معنى في غيره».

و المراد بالجملة الاولى هو الدلالة على المسمّى، و هو صحيح بالنسبة إلى جميع الأجناس و الأعلام. و المراد بالثانية إنما هو بالنسبة إلى أفعال الممكنات، حيث أن غالبها متقوّمة بحركة ما، و لو الحركة الإرادية. و المراد بالأخيرة إيجاد النسب

ص: 17

و الإضافات في استعمالات المعاني الاستقلالية، كما تقدم.

و عن مولانا الرضا عليه السّلام: «و اعلم إن الإبداع، و المشيّة، و الإرادة، معناها واحد و أسماؤها ثلاثة، و كان أول إبداعه و إرادته و مشيته: الحروف التي جعلها أصلا لكل شيء، و دليلا على كل مدرك، و فاصلا لكل مشكل...». و هنا مباحث نفيسة ليس المقام محل التعرض لها.

ثم إن المعاني الحرفية المبحوث عنها في المقام كل ما لا يستقل بالذات أو لا تحصّل له إلاّ في الغير و بالغير، فتشمل جميع النسب و الإضافات و الهيئات التي لا استقلال لها بوجه من الوجوه، و هذا كله إذا لوحظت من حيث الفناء في المتعلق و القيام به.

و أما إذا لوحظت في نفسها و بنفسها فيخرج عن موضوع البحث قهرا، لصيرورتها بذلك من المعاني المستقلة الملحوظة بنحو العنوان المشير إلى المعاني الحرفية، لا أن تكون عينها لاستحالة ذلك.

و كيف كان، فلا ثمرة عملية في البحث عن المعاني الحرفية و ما يلحق بها من النسب و الإضافات و الهيئات، إلا في مورد واحد و هو إمكان تقييد الهيئة بناء على كون الموضوع له فيها عاما، دون ما إذا كان خاصا. و هذه الثمرة ساقطة رأسا، كما أشرنا إليه سابقا.

أما أولا: فلأن الخصوصية لا تنافي التقييد، كما في تقييد الأعلام.

و ثانيا: فلأنها بتبع متعلقاتها تقبل كل شيء، كما هو واضح.

هذا كله في نفس المعاني الحرفية و ما يلحق بها.

و أما الأسماء التي تشبهها، المعبّر عنها بالمبنيات في العلوم الأدبية و المبهمات أيضا، كالضمائر و الموصولات و الإشارات، فوضعها استقلالي، لكن الموضوع له فيها الذات المبهم من كل حيثية و جهة، القابل الانطباق على الجزئي و الكلي، نظير ما يأتي في معنى الإطلاق إن شاء اللّه تعالى.

ص: 18

و لعل المراد بالوضع العام و الموضوع له العام ما يعم هذا القسم أيضا، فلا يلزم زيادة في أقسام الوضع المشهورة.

تذنيبات:

الأول: تتصف المعاني الحرفية بالإيجادية و الإخطارية،

الكلية و الجزئية، و الإطلاق و التقييد بتبع متعلقاتها، لفرض فنائها في متعلقاتها، و عدم تحصّل لها في ذاتها بوجه من الوجوه، بل يصح فرض اتصافها بها و لو لم يتصف المتعلق بها على نحو عدم لحاظ المتعلق و الغفلة عنه، لا لحاظ العدم، و هذا صحيح في الانحلالات الذهنية و تمحلاتها.

فما يقال: من أن الهيئات لكونها من سنخ المعاني الحرفية، غير قابلة للإطلاق و التقييد، لكون الموضوع له فيها خاصا.

مردود: بما مرّ، مع أن التقييد لا ينافي الخصوصية إن فرض كون الموضوع له فيها خاصا، كما في تقييد الأعلام.

الثاني: النسب و الإضافات تعمان جميع الموجودات

، ففي المبدأ تبارك و تعالى - كالخالقية، و الرازقية و نحوهما - و أما الممكنات فقد حفّت بإضافات شتى من إضافاتها إلى الفاعل، و المادة، و الزمان، و المكان، و غيرها مما لا تحصى. و أول النسب العارضة لها هي النسبة إلى الفاعل، ثم الزمان و المكان، و قد اصطلحوا في الأخيرين على المستقر تارة، و اللغو اخرى.

و الأول: ما كان نفس الظرف محمولا، كزيد في يوم الجمعة، أو في الدار.

و الثاني: ما كان من متممات المحمول، كزيد يقوم في الجمعة، و يصلي في الدار.

الثالث: الجملة تارة إخبارية محضة

، كزيد قائم. و اخرى إنشائية كذلك، كاضرب. و ثالثة تستعمل فيهما، كبعث مثلا. و الجامع في الجميع إبراز المعنى،

ص: 19

و الفرق في الاوليين من جهة المحاورات، و في الأخيرة من جهة القرائن التي منها الداعي الذي يفهم بالقرائن الظاهرة - مقالية كانت أو حالية -

ثم إن الإخبارية و الإيجادية من الامور المتقوّمة بالقصد، و لا يبعد صحة اتصاف كلام واحد بهما من جهتين مختلفتين.

و لا ريب في وضع مواد الجمل شخصيا، كما لا ريب في وضع هيئاتها الخاصة التي تفيد معاني مخصوصة نوعيا.

و أما ملاحظة المادة مع الهيئة الخاصة مجموعا ثم وضع المركب منهما ثالثا، فهو من اللغو الباطل، و لا يرتكبه العاقل.

الأمر السابع: الكلام فى الحقيقة و المجاز

لا ريب في وقوع الحقيقة و المجاز في المحاورات. و الاولى هي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له، كما أن الثاني هو استعماله فيما يناسبه.

و الاحتمالات في المعاني المجازية خمسة:

الأول: عدم وضع لها أصلا، بل الاستعمالات فيها طبعية، لا أن تكون مستندة إلى الوضع.

الثاني: أن تكون وضعية بالوضع النوعي، لكن لا دليل عليه، بل مقتضى الأصل عدمه.

الثالث: أن يكون نفس الوضع للمعنى الحقيقي وضعا لها أيضا، لكن بالتبع، لأنها من شئون المعنى الحقيقي و أطواره و خصوصياته. و أيضا مقتضى الأصل عدم لحاظ هذه الخصوصية للواضع.

الرابع: أن يكون ذلك بإذن من الواضع. و مقتضى الأصل عدمه أيضا، و على فرض وجوده، لا دليل على اتباعه ما لم يساعده الذوق السليم.

الخامس: أن يكون الاستعمال فيها تنزيليا، أي تنزيل المعاني المجازية

ص: 20

منزلة المعاني الحقيقية.

و فيه: أنه يحتاج إلى عناية خاصة، و الأصل عدمها.

و يمكن اختيار الاحتمال الثالث و إرجاع الأول إليه.

و على أي تقدير يكون ذلك مشروطا بعدم استنكار أهل المحاورة، سواء أذن الواضع فيه أم لا. و أما مع الاستنكار، فلا يصح و إن أذن الواضع فيه.

و الاستنكار و عدمه يختلفان بحسب الأعصار و الأمصار و العادات المختلفة غاية الاختلاف. فالمجاز، و الاستعارة، و الكناية من مجرد الاصطلاح - و المدار كله على صحة الاستعمال بحسب الذوق السليم و الطبع المستقيم - سمي بتلك الاصطلاحات أو لا، كما أن الإفادة و الاستفادة تدوران مدار الظهور، فمعه تصح و إن كان المعنى غير حقيقي، و مع عدمه لا وجه له و إن كان حقيقيا.

و من ذلك كله يظهر أن الاستعمال لا ينحصر في الحقيقة و المجاز، بل يصح كل ما قبله الأذهان المستقيمة من أهل المحاورة، سمي بالحقيقة أو المجاز، أو لا. كاستعمال اللفظ في نفسه أو مثله أو نوعه، كما إذا قيل (زيد لفظ) و اريد نفسه، أو قيل: زيد في (زيد قائم) مبتدأ و اريد مثله؛ أو قيل ذلك و اريد نوعه، فإن كل ذلك يصح في المحاورات الصحيحة.

و إشكال وحدة الدال و المدلول، مدفوع: بتعدد الجهة و الحيثية مع أنه لا محذور فيه، فقد قال عليه السّلام: «يا من دلّ على ذاته بذاته».

و قد تقدم أن مقتضى الأصل عدم الوضع للمجازات - و لو نوعا - كما أن مقتضاه عدم الحصر للعلائق المجازية، بل الاستعمالات المجازية تدور مدار الأذواق السليمة المختلفة بحسب العادات و الأعصار و الأمصار التي لا تضبطها ضابطة كلية، و ما ذكر في العلوم الأدبية من العلائق المجازية إنما هو بحسب الغالب لا الاستقصاء. و بذلك كله يسقط البحث عن جملة كثيرة من مباحث الحقيقة و المجاز التي أطيل فيها الكلام من دون أن تكون فيها ثمرة عملية بل و لا علمية.

ص: 21

الأمر الثامن: تعريف الحقيقة و المجاز، علامات الحقيقة

الحقيقة عبارة عن كون اللفظ مرآة لذات المعنى بلا واسطة، و المجاز عبارة عن كونه مرآة لما يناسبه بقرينة حالية أو مقالية. و للحقيقة علامات انطباقية قهرية، لا أن تكون جعلية:

الاولى: تبادر المعنى، سواء كان للانس الذهني في الجملة - و لو كان جاهلا بالوضع تفصيلا - أو عند العالمين بالوضع تفصيلا، فإنه علامة للوضع عند الجاهل به.

و اشكل على الأول: بأن التبادر يتوقف على العلم بالوضع، و إلا لا يتبادر شيء قطعا، فإذا كان العلم بالوضع متوقفا عليه، لدار.

و فيه: أن التبادر متوقف على أن اللفظ ليس بمهمل، بل له معنى إجمالا مرددا بين شيئين أو أشياء، و العلم بالوضع متوقف على تبادر معنى خاص عن اللفظ تفصيلا، فتختلف جهة التوقف، فلا دور. هذا إذا علم الاستناد إلى ذات اللفظ، و أما لو شك فيه فبأصالة عدم القرينة لا تثبت الحقيقة، لأنها من الاصول العقلائية التي تجري في استفادة المراد فقط، لا في تشخيص أنه حقيقة أو مجاز.

الثانية: عدم صحة السلب، فإنه كصحة الحمل علامة للحقيقة. و الدور المزبور آت هنا أيضا مع جوابه.

الثالثة: الاطّراد، أي كلما اطلق لفظ باعتبار معنى خاص على مورد، صح إطلاقه في كل مورد تحقق ذلك المعنى بعينه، كإطلاق الرجل على زيد باعتبار الرجولية، فإنه يصح إطلاقه باعتبار هذا المعنى في كل مورد تحققت فيه الرجولية.

و لكن، لما كان الاطراد متحققا في المجاز باعتبار القرينة الخاصة و يطّرد

ص: 22

أيضا، فلا وجه لجعله علامة للحقيقة.

نعم، لا اطراد في المجاز مع قطع النظر عن العلاقة الشخصية، و زيادة قيد بلا قرينة، أو على وجه الحقيقة موجب للدور، لأحذ المعرّف (بالفتح) في المعرّف (بالكسر) فتتوقف معرفة كل منهما على الآخر، و لا وجه للجواب بالإجمال و التفصيل هنا، لأنه لا بد من العلم بالمعرّف (بالكسر) تفصيلا، و المفروض أن من أجزاء المعرّف (بالكسر) قيد «على وجه الحقيقة، أو بلا قرينة» التي هي عبارة اخرى عنها.

ثم إن صحة السلب و عدم الاطراد علامتان للمجاز. و أما عدم التبادر، فهو أعم من كونه علامة للمجاز، لإمكان كون اللفظ مجملا.

الأمر التاسع: حالات اللفظ، الرجوع الى الاصول العقلائية ان اشتبه اللفظ

الألفاظ المتداولة في المحاورات لها حالات من الحقيقة، و المجاز، و الاشتراك، و النقل، و الإضمار - و هو احتياج فهم المراد إلى إضمار شيء - إلى غير ذلك من الحالات المذكورة في المطولات. فإن علم حالة اللفظ و لو من القرائن - مقالية كانت أو حالية - تتبع لا محالة، و إلا فتصل النوبة إلى الاصول العقلائية المتداولة بينهم في محاوراتهم، كأصالة عدم القرينة فيحكم بالحقيقة، و أصالة الإطلاق و العموم التي ترجع إلى عدم القرينة أيضا. و كأصالة عدم النقل، و أصالة عدم الوضع ثانيا، فيحكم بعدم الاشتراك.

و مع عدم جريان مثل هذه الاصول يحكم عليه بالإجمال، سواء جرى الأصل و سقط بالتعارض، أم لم يجر لاختلال أركانه. و أما الاستحسانات التي ذكرت لتعيين حال اللفظ عند التعارض، فمقتضى الأصل عدم الاعتبار بها ما لم يوجب الظهور.

ص: 23

الأمر العاشر: الدلالة اما تصديقية أو تصورية

الدلالة التصديقية عبارة: عن دلالة الكلام على أن المتكلم معترف بكلامه و جازم به، و هي معتبرة لدى العقلاء مطلقا في المحاورات و الاحتجاجات و غيرها، و لا ريب في توقفها على إرادة المتكلم، و إلا فلا وجه لاعتبارها أصلا، إذ لا وجه لاعتبار ما لا إرادة فيه.

فكل كلام يصدر اختيارا من أي متكلم يدل على أنه معترف بمفاد كلامه، ما لم تكن قرينة حالية أو مقالية على الخلاف.

و الدلالة التصورية عبارة عن خطور المعنى في ذهن السامع عند سماع الكلام، و عن جمع أنها أيضا تتبع الإرادة، و عن آخرين نفي ذلك، و يمكن الجمع بين القولين: بأن من قال بالتبعية، أي التبعية للإرادة الاستعمالية، لأن الدلالة معلولة الاستعمال، و الاستعمال معلول الإرادة. و من قال بعدمها أي الإرادة الحاصلة من جزم نفس المتكلم أو تجزمه بما تكلم به، إذ الإرادة الاستعمالية ليست تابعة لتلك الإرادة، لصحة كون الاستعمال لدواع أخر غير جزم النفس بما يقوله.

إن قلت: فعلى هذا لو سمع الكلام من متكلم بلا شعور و إرادة، يلزم أن لا تكون فيه الدلالة التصورية، مع أنه خلاف الوجدان.

قلت: لا ريب في وجود الدلالة فيه أيضا، لكنها من جهة انس الذهن و ارتكازه بالإرادة الاستعمالية، لا من جهة اخرى، فلا نقض و لا إشكال.

و أما ما ذكره في الكفاية من أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما و الموضوع له خاصا، لمكان أخذ الإرادة الشخصية فيه.

فلا وجه له، لأن الإرادة المأخوذة إنما هي بنحو دخل لحاظ الغاية في المغيا، لا بنحو دخل الجزء في المركب.

ص: 24

الأمر الحادي عشر: المعانى اما تكوينيه او اعتبارية او من المخترعات

لا ريب في أن المعاني إما من التكوينيات - جوهرا كانت أو عرضا - أو من الاعتباريات العقلائية، كالبيع و الصلح، و الإجارة و نحوها، أو من المخترعات، كالصلاة و الصوم و الحج و نحوها. و لا خلاف في أن ألفاظ غير الأخيرة من الحقائق اللغوية، و لا وجه لجريان نزاع الحقيقة الشرعية فيها.

نعم، زاد الشارع في بعضها حدودا أو قيودا، كالكر، و السفر، و البيع، و الإجارة و نحوها.

و أما الأخيرة فاختلفوا فيها من جهتين:

الاولى: هل هي من المعاني المستحدثة في خصوص الشريعة الختمية أو كانت في جميع الشرائع الإلهية، مع الاختلاف في خصوصياتها في الجملة؟ يظهر من جملة من الآيات، و النصوص الكثيرة الواردة في حالات الأنبياء عليه السّلام الثاني و الشريعة الختمية إنما أكملها، لا أنه أوجد معنى لم يكن الأنبياء يعرفون ذلك المعنى، فهذه المعاني كانت في جميع الرسالات السماوية و إنما أكملتها الشريعة الختمية، كما أكملت جميع المعارف الربوبية.

الثانية: هل تكون ألفاظ هذه المعاني مسبوقة بالعدم قبل شرع الإسلام؟ و إنما أوجدها الشارع، أو إنها كانت مستعملة في معان لغوية و إنما استعملها الشارع في ما أراد على نحو استعمال الكلي في القرد، بمعنى الصلاة هو الدعاء و الميل و العطف، و الزكاة هو التطهير، و الحج هو القصد.

و حيث أن الصلاة المتعارفة من مصاديق الدعاء، و الزكاة من مصاديق طهارة المال، و الحج من مصاديق القصد، استعملها الشارع فيها لا أن يكون وضع حادث في الإسلام تخصيصا أو تخصصا؟ قولان: الحق هو الأخير،

ص: 25

للأصل، و لأنه لو كان شيء لظهر و بان و شاع، لا سيما في مثل هذا الأمر العام البلوى، خصوصا مع اهتمام الناس على حفظ مثل هذه الامور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

فاستعماله صلّى اللّه عليه و آله لهذه الألفاظ معلوم نطقا، و وضعه صلّى اللّه عليه و آله لها مشكوك؛ فيطرح المشكوك بالأصل، فيكون استعمال هذه الألفاظ اللغوية، كاستعمال لفظ (الميزان) في الموازين الحادثة بعد وضع لفظ الميزان، كميزان الحرارة و الكهرباء، و مثل كون علم المثلثات ميزانا لمعرفة البراهين، و علم العروض ميزانا لمعرفة الشعر، و في زيارة علي عليه السّلام: «السّلام على ميزان الأعمال»، و مثل هذه الألفاظ كثير لا يحصى مع أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية لهذا البحث رأسا، لأن مراده صلّى اللّه عليه و آله من هذه الألفاظ ببيانه و بيان أوصيائه عليهم السّلام معلوم، سواء ثبتت الحقيقة الشرعية أم لا، و قد تقدم أن الظهور المرادي حجة متبعة، سواء استند إلى الحقيقة أم غيرها، و ما كان مجملا يكون ساقطا و لو كان حقيقة.

و أما ما اصطلح عليه ب (حقيقة المتشرعة) فلا وجه له أيضا بعد ما مرّ من أنها حقائق لغوية.

نعم، بناء على أن استعمال الشارع لتلك الألفاظ في المعاني المستحدثة كان على نحو المجاز، لكن صار ذلك المجاز حقيقة متشرعة، لكثرة الاستعمال في المعاني المستحدثة، لا بأس به، و لكن أصل المبنى باطل، كبطلان كون استعمال الشارع لها يكون من المجاز، أو حصول الوضع التخصصي من استعماله، أو أن استعماله ليس من الحقيقة و المجاز، و إنما حصلت الحقيقة التخصصية في لسان تابعيه، فكل ذلك رجم بالغيب و من مجرد الدعوى بلا ريب.

ص: 26

الأمر الثاني عشر: وقع النزاع فى الالفاظ مطلقا

اشارة

وقع النزاع في أن الألفاظ مطلقا موضوعة للمعاني الصحيحة، أو للأعم منها و من الفاسد. و لا اختصاص لهذا النزاع بخصوص المخترعات الشرعية، كما يظهر من الكلمات، بل يجري في جميع الألفاظ مطلقا.

و الظاهر هو الوضع للأعم، لأن الصحة إما قيد للموضوع له، أو يكون الوضع في حال الصحة مع عدم لحاظ القيدية، و على كل منهما إما أن يراد بها الصحة الفعلية من كل حيثية و جهة، أو الصحة الاقتضائية الشاملة للفعلية و غيرها.

و لا وجه لاحتمال القيدية مطلقا، لأنه خلاف الأصل و الوجدان، كما لا وجه لاحتمال الوضع في حال الصحة الفعلية، لأن للصحة مراتب متفاوتة جدا، و بناء نظام التكوين على التغير و التبدل، فيكون الموضوع له أي مرتبة منها، فيتعين أن تكون الألفاظ موضوعة للمعاني في حال الصحة الاقتضائية الجامعة لجميع المراتب، و هي عبارة اخرى عن الأعم، فيكون النزاع لفظيا، إذ لا فرق بين الأعم و الصحة الاقتضائية.

ثم إنه نسب إلى المشهور أن ألفاظ العبادات موضوعة للمعاني الصحيحة.

فإن كان مرادهم الصحة الاقتضائية، فلا فرق بينها و بين الأعم. و إن كان مرادهم الصحة الفعلية من كل جهة، فلا دليل لهم، كما تقدم و يأتي.

ثم إنه قد اطيل الكلام في جريان النزاع على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية. و الظاهر عدم الاحتياج إلى الإطالة، بل ينبغي أن يقال: إن المسمى في هذه الألفاظ في لسان الشرع و تابعيه، خصوص الصحيحة أو الأعم منها، فيشمل النزاع ما إذا لم تثبت الحقيقة الشرعية أيضا.

و لا بد من التنبيه على امور:

اشارة

ص: 27

الأول: الصحة و الفساد بما لهما من المعنى العرفي الواقعي يكونان مورد البحث في المقام

، و تكون الصحة و الفساد الشرعي من مصاديق كلي الصحة و الفساد العرفي، فموافقة الأمر و عدمها، و سقوط الإعادة و عدمه، و موافقة الشريعة و عدمها، الذي اصطلح الاصولي و الفقيه و المتكلم فيها ليس مغايرا للمعنى العرفي، بل الجميع - بكل معنى لوحظ - ملازم لمعنى التمامية، كما أن ما ذكره الفقيه و الاصولي و المتكلم واحد و إن اختلف التعبير.

الثاني: الصحة و الفساد من الامور الاعتبارية الإضافية لهما أفراد عرضية

و طولية، فربّ صحيح بالنسبة إلى شخص فاسد بالنسبة إلى آخر و بالعكس، بل بالنسبة إلى حالات شخص واحد أيضا، فرب صحيح بالنسبة إلى حالة، فاسد بالنسبة إلى اخرى، و لكل واحد منهما مراتب متفاوتة جدا.

و لا ريب في أن الوضع في ألفاظ العبادات كغيرها من أسماء الأجناس عام و الموضوع له كذلك أيضا، و قد أجمعوا على أنها ليست من المشترك اللفظي، فلا بد على كل من القولين من قدر جامع في البين، يكون هو الموضوع له، مع أن غرض الأعمّي التمسك بالإطلاق، و مقصود الصحيحي ثبوت الإجمال، و كلاهما يستلزمان الجامع، ففرضه مما لا بد منه على كل تقدير.

الثالث: الصحة و الفساد إنما يكونان بالنسبة إلى الذات من حيث التقييد

بالشرائط، لفرض دخالة كل من الأجزاء و الشرائط فيهما بحسب التشريع.

و أما المشخصات فهي خارجة عن الحقيقة و داخلة في المأمور به، و يمكن جعل الجامع مرآة إجمالية بالنسبة إليهما أيضا.

ثم إنه يصح أن يكون الجامع عنوانيا، كعنوان الناهي عن الفحشاء بنحو الاقتضاء من حيث جعله عنوانا مشيرا الى المعنون، لا بنحو لوحظ بنفسه، و أن يكون ذاتيا ماهويا، كذوات الأجزاء بنحو الشأنية أيضا، و أن يكون وجوديا،

ص: 28

كالوجود الاعتباري للصلاة مطلقا في مقابل الزكاة و الحج و الصوم مثلا، و أن يكون حاليا، أي حالة توجه العابد إلى المعبود على نحو الاقتضاء و الشأنية أيضا، و لكنه يرجع إلى الثاني، لأن التوجه عبارة عن النية، و هي إما جزء أو شرط، و كل ذلك يصح أن يقع جامعا.

و لا ملزم لأن يكون الجامع معلوما من جميع جهاته، بل يكفي لحاظه بنحو الإهمال و الإجمال بالعنوان المشير إلى الماهية المبهمة الصلاتية القابلة الانطباق على الصحيحة و الفاسدة، و لا ملزم لجعل الجامع تارة على الصحيح، و اخرى على الأعم، كما فعلوه، بل يكفي تصوير الجامع بينهما، لأن أفراد الصحيح و الأعم متداخلة، فالصحيح لشخص فاسد لآخر، فتصوير الجامع بينهما يغني عن تطويل الكلام، كما لا يخفى.

و قد يقال: إن الجامع إنما هو الأركان، و الزائد عليها معتبر في المأمور به لا في المسمى.

و اشكل عليه: بعدم دوران التسمية مدارها، لصدق الصلاة مع الاخلال ببعضها، و عدم الصدق على خصوص الأركان مع الإخلال بسائر ما يعتبر في الصلاة جزء و شرطا، مع أنه يستلزم أن يكون صدق الصلاة على المستجمع لجميع الأجزاء و الشرائط مجازا، من باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل.

و فيه: أنه كذلك إن كان الموضوع له الأركان بحدّ خاص و مرتبة معينة.

و أما إذا كان على نحو الاقتضاء من حيث المرتبة، و من حيث لحوق باقي الأجزاء و الشرائط بالنسبة إليها، فلا إشكال فيه أصلا.

و قيل: إن الجامع معظم الأجزاء الدائرة مدارها التسمية.

و اشكل عليه: مضافا إلى ما تقدم في سابقه مع جوابه، أن معظم الأجزاء تتبادل بحسب الحالات، فيلزم كون شيء واحد داخلا في المسمى مرة و خارجا

ص: 29

عنه اخرى.

و فيه: أنه كذلك لو كان معظم الأجزاء ملحوظة على نحو التعيين، لا على نحو الإهمال المنطبق على جميع المتبادلات.

و قيل: بأن وضعها كوضع الأعلام الشخصية، فكما لا تضر التبدلات الخارجية بأصل المسمّى، فكذا المقام.

و اشكل عليه: بأن الموضوع له متعين في الأعلام فلا تضر التبدلات، بخلاف المقام الذي لا تعين فيه بوجه.

و فيه: أن التعين أعم من التعين الخارجي، كما في الأعلام، أو الاعتباري الفرضي، كما في المقام، فيعتبر ما ثلثه الركوع، و ثلثه السجود، و ثلثه الطهور بالمعنى الأعم مما يجزئ شرعا بحسب الحالات المختلفة.

و قيل: بأنه الصحيح المستجمع لجميع الأجزاء و الشرائط من كل جهة، ثم يطلق على سائر الأفراد تنزيلا.

و فيه: أنه مع إمكان فرض الجامع الصحيح و إمكان الإطلاق الحقيقي، لا تصل النوبة إلى الإطلاق التنزيلي.

و الحاصل أنه يصح تصوير الجامع على الصحيحي، بل الأعمّي أيضا، لإمكان تصوير ما ثلثه ركوع، و ثلثه سجود، و ثلثه طهور - كما في الحديث - بالمعنى الأعم من الاختياري و الاضطراري بجميع مراتبها.

و ما يقال: إن الجامع المفروض إما مركب أو بسيط، و الأول يحتاج إلى فرض جامع آخر، لأن المركب قابل للتمامية و النقصان. و الثاني يوجب عدم صحة الرجوع إلى البراءة في موارد الشك في الجزئية و الشرطية، لكونه من الشك في المحصل حينئذ.

مدفوع: بأنه يمكن أن يكون مركبا و لا محذور فيه، لأنه ملحوظ بنحو الإهمال لا التعين، و الإشكال يلزم على الثاني دون الأول. كما يمكن أن يكون

ص: 30

بسيطا، و مع ذلك يصح الرجوع إلى البراءة في الشك في الجزئية و الشرطية، لأن ثبوتها إنما هو بحسب الأدلة البيانية لا مجرد الوضع، و بعد الرجوع إلى الأدلة و عدم الظفر بجزء أو شرط سوى ما ذكر فيها، يصح الرجوع إلى البراءة، عقلا و شرعا في المشكوك، سواء كان الموضوع له بسيطا أو مركبا.

ثم إنه قد استدل للصحيح بالتبادر، و عدم صحة السلب، و سيرة العقلاء في أوضاعهم، و بظهور الأخبار الدالة على آثار خاصة للعبادات، فإن المنساق منها الصحيح، كالأخبار النافية لآثارها عند فقد بعض الأجزاء و الشرائط.

و يمكن المناقشة في الجميع بأنه قد استدل بالأولين للأعم أيضا، و مقتضى السيرة الوضع للصحيح الاقتضائي، لا الفعلي من كل جهة، و هو لا ينافي الأعم.

و ما هو المنساق من الأخبار إنما هو بالنسبة إلى المأمور به لا الموضوع له، فالوضع للصحيح الاقتضائي معلوم و غير مشكوك فيه، و هو لا ينافي الأعم، بل يمكن أن يجعل أصل هذا النزاع لفظيا.

و الجمع بين القولين - و إن بعد عن كلماتهم - بأن يكون مراد من يقول بالوضع للصحيح أي الاقتضائي منه، و هو عبارة اخرى عن الأعم، و مع بطلان الثمرة العملية الآتية يكون هذا الجمع متينا، إذ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.

و استدل للأعم تارة بتبادر الأعم، و عدم صحة السلب عن الفاسد، و اشكل عليه بتوقفه على تصور الجامع و هو غير ممكن.

و فيه: ما تقدم من إمكان تصويره بلا محذور.

و اخرى: بصحة التقسيم إلى الصحيح و الفاسد، و لا بد من ثبوت المقسم في الأقسام بلا كلام.

ص: 31

و اشكل عليه: أنه بلحاظ الاستعمال، و هو أعم من الحقيقة.

و فيه: أن وجود المقسم في الأقسام لا بد أن يكون واقعا و حقيقة، لأن الأقسام من أفراد ذات المقسم، و يصدق عليها صدق الطبيعي على أفراده، فلا وجه لاحتمال كونه أعم من الحقيقة إلاّ أن يكون أصل التقسيم مجازيا، و المفروض في المقام خلافه.

و ثالثة: بالأخبار الظاهرة في صدق الصلاة على الفاسدة أيضا، كقوله عليه السّلام للحائض: «تدع الصلاة ما دامت ترى الدم»، و نحوها مما يكون ظاهرا في الصدق على الفاسد.

و اشكل عليه.. تارة: بأن الاستعمال أعم من الحقيقة.

و فيه: أن الاستدلال باعتبار الظهور العرفي، و هو حجة معتبرة.

و اخرى: بأن مثل هذه النواهي إرشاد إلى الفساد، و إلا يلزم أن يكون إتيان الصلاة الباطلة محرما عليها.

و فيه: أنه لا ينافي الاستعمال في الفاسد، و عدم حرمة الصلاة الباطلة عليها لظهور الإجماع.

ثم إن الظاهر عدم الثمرة العملية لهذا البحث.

و ما قيل: من ظهورها في التمسك بالإطلاق و العموم بناء على الأعمي في نفي مشكوك القيدية دون الصحيحي، لصيرورة الألفاظ مجملة حينئذ. و كذا في التمسك بالأصل العملي، فإن المرجع هو البراءة في مشكوك القيدية بناء على الأعمّي، و الاشتغال بناء على الصحيحي، لفرض الإجمال في الدليل.

مخدوش: بأن الإطلاق و العموم إن كان في مقام البيان، يصح التمسك به لنفي مشكوك القيدية على كلا القولين بعد الفحص عن المقيدات و المخصصات، و إن لم يكن كذلك فلا يصح مطلقا.

كما أنه بعد التفحص في الأدلة الدالة على شرائط المأمور به و أجزائه

ص: 32

و عدم الظفر على ما يدل على اعتبار المشكوك، يكون المرجع هو البراءة على القولين، و قبل التفحص فيها يكون المرجع هو الاشتغال عليهما أيضا. فلا ثمرة بينهما، لا بالنسبة إلى الاصول اللفظية و لا العملية.

و أما ما يقال: من ظهور الثمرة في نذر الصلاة في مكان مكروه، أو لباس كذلك. فإنه بناء على الأعم يكون صحيحا و يتحقق الحنث بالمخالفة. و أما بناء على الصحيح فلا يتحقق الحنث لو أتى بالصلاة كذلك، لكونها باطلة من جهة تحقق النهي الحاصل من مخالفة النذر بها، و النهي في العبادة يوجب البطلان، بل يكون إتيان الصلاة الصحيحة غير مقدورة بناء عليه.

و يرد عليه.. أولا: فلأنه ليس ثمرة البحث الاصولي حتى تقع في طريق استفادة الأحكام الكلية، و إنما هو مسألة فقهية ذات قولين.

و ثانيا: أنه تابع للقصد لا الاستعمال، فإن قصد الناذر الصلاة الصحيحة لا يحنث، سواء كان الوضع و الاستعمال للصحيح أم للأعم. و إن قصد الأعم يحنث، سواء كان الوضع و الاستعمال للصحيح أم للأعم.

و ثالثا: أنه يمكن أن يكون المراد الصحيح الاقتضائي لو لا النذر، فحينئذ يصح النذر و الصلاة، و يحصل الحنث أيضا.

و أما المعاملات فهي إمضائية يكفي في صحتها عدم ثبوت الردع من الشارع، و مقتضى العرف و العادة هو الوضع للصحيح الاقتضائي فيها أيضا، و كلما صدق عليه عناوينها الخاصة عرفا و لم يثبت الردع عنها شرعا، يصح التمسك بإطلاقها و عمومها، لنفي مشكوك القيدية مطلقا، و مع الشك في الصدق العرفي لا يصح التمسك بها كذلك، لأنه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، فيرجع إلى الاصول الموضوعية، و مع عدمها إلى الحكمية، فلا ثمرة فيها أيضا بين القولين.

ص: 33

الأمر الثالث عشر: ينقسم اللفظ الى المتحد المعنى و اللفظ

اللفظ و المعنى إما متحدان، و يعبّر عنه بمتحد المعنى، أو متعددان، و يعبّر عنه بالمتباين. أو يكون المعنى واحدا عرفا - و إن تعدد بحسب الحيثيات و الدقيات العقلية - و اللفظ متعددا، و يعبّر عنه بالمترادف، أو يكون بالعكس، و يعبّر عنه بالمشترك.

و لا ريب في وقوع الجميع في المحاورات الصحيحة، إلا أنه قد وقع الكلام في الأخير من جهات:

منها: كونه خلاف الفصاحة و البلاغة، لأنه إن اتكل في فهم المراد على القرينة فهو من التطويل بلا طائل، و إلا فهو من الإجمال.

و فيه: أن كلاّ من التطويل و الإجمال قد يكون موردا لأغراض صحيحة، فتصير بها من أهم موارد الفصاحة و البلاغة.

و منها: أنه لا بد من وقوعه لتناهي الألفاظ، لكونها مركبة من الحروف المتناهية، و المركب من المتناهي متناه، و عدم تناهي المعاني فلا بد من وقوعه.

و فيه: أن المعاني متناهية أيضا في كل دورة من الأدوار، و مورد الاحتياج متناهية قطعا، بلا احتياج إلى معان اخرى حتى نحتاج إلى الاشتراك.

نعم، لا ريب في وقوع الاشتراك خارجا، خصوصا في الأعلام الشخصية، و هو أعم من وجوب وقوعه.

و منها: أن استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد إن كان على نحو تعدد الدال و المدلول، فلا إشكال فيه، فيكون نظير الكنايات التي يستفاد من مدلولها المطابقي شيء، و من مدلولها الالتزامي شيء آخر.

و أما إذا كان مستقلا و بالدلالة المطابقية في كل واحد من المعاني بحيث كأنه لم يكن للفظ معنى غيره، فاستدل على بطلانه بوجوه:

ص: 34

الأول: أنه خلف الفرض. و المناقشة فيه واضحة، فإن الاستقلالية أمر اعتباري، فمن الممكن اعتبار الاستقلالية من جهتين، و لا محذور فيه.

و أما حديث أن اللفظ فان في المعنى، و لا يعقل فناء الواحد في الاثنين.

فلا أصل له، لأن اللفظ له نحو من التعين، و المعنى كذلك، و لا يعقل فناء أحد المتعينين في الآخر.

نعم، لا ريب في أن اللفظ عنوان مشير إلى المعنى، و يصح أن يكون شيء واحد عنوانا مشيرا إلى شيئين.

الثاني: أنه مستلزم لتكثّر الواحد، لأن تعدد الدلالة المطابقية مع الاستقلال في كل واحد منهما - كما هو المفروض - يستلزم تعدد الدال قهرا، مع أنه واحد في الاستعمال الواحد، كما هو واضح، فيلزم المحذور.

و فيه: أن تكثّر الواحد بتعدد الاعتبار و الجهة، لا بأس به.

الثالث: أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد وحدة المعنى، أو في حال الوحدة، و الاستعمال في الأكثر ينافي ذلك، فيكون مجازا من باب استعمال الموضوع للكل في الجزء.

و فيه: أن التعدد خلاف الأصل و الوجدان عند وضعنا للأعلام الشخصية، و الوضع في حال الوحدة و إن صح ثبوتا لكن حالات الموضوع له عند الوضع غير دخيلة في الوضع و لا في الموضوع له، و إلا لعمّت المجازية أكثر الألفاظ لو لا كلها، مع أنه من مجرد الدعوى بالنسبة إلى المشترك اللفظي، و الموضوع له في الجميع نفس الذات مع قطع النظر عن أية جهة خارجة عنه، كما لا وجه للتفصيل بين التثنية و الجمع فيجوز فيهما - لأنهما بمنزلة تكرار اللفظ - و بين المفرد، فلا يجوز، لما تقدم من أنه لو كانت الدلالة بنحو تعدد الدال و المدلول، فهو خارج تخصصا من مورد البحث، لأن مورده ما إذا كان الدال واحدا صورة، و اللفظ مع علامتي التثنية و الجمع يكون من تعدد الدال، كما هو واضح، مضافا

ص: 35

إلى أنه إذا لم يصح استعمال المفرد في المتعدد، لا يصح بالنسبة إلى التثنية و الجمع أيضا، لأنهما من عوارضه فيتبعهما ما يلحقه جوازا و منعا.

ثم إنه لا بد في التثنية و الجمع من جهة جامعة بينهما و بين المفرد، لأن معناهما لغة و عرفا فردان أو أفراد من شيء واحد؛ و تلك الجهة الجامعة إما أن تكون النوع المشترك بين الأفراد، أو الجنس البعيد، كما يقال: الماء و النار جسمان، أو هما و التراب أجسام.

و قد تكون مطلق الشيئية، كما يقال: الواجب و الممكن شيئان، و قد تكون مجرد الاشتراك في التسمية، كالتثنية و الجمع بالنسبة إلى الأعلام.

و في التثنية و الجمع بالنسبة إلى المشترك يتصور وجوه:

الأول: استعمال المفرد في معنى واحد، و إرادة فردين أو أفراد منه، و ليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، كما هو واضح.

الثاني: أن يراد بالمفرد المتعدد، كما إذا استعمل العين في الباكية و الجارية، و اريد بالعينين فردان من كل منهما، و هذا من استعمال المفرد و التثنية في أكثر من معنى.

الثالث: استعمال المفرد في المعنى الواحد، كالجارية، و استعمال التثنية في الجارية و الباكية.

و الظاهر صحة الكل مع القرينة.

و حاصل ما ذكرناه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد أنه يصح بتعدد الدال و المدلول، و التعدد إما خارجي أو اعتباري، فكما يصح في الأول يصح في الأخير أيضا، لبناء جملة من المحاورات على الاعتباريات.

ثم إن ما دل من الأخبار على أن للقرآن بطونا لا يدل على صحة استعمال المشترك في أكثر من المعنى، لأن تلك البطون من قبيل الإشارات و الرموز التي لا يفهمها إلا أشخاص خاصة.

ص: 36

و الكلام في المقام في الاستعمالات المحاورية العرفية. و أما ما ورد في سؤال الهداية من اللّه عزّ و جلّ عند قراءة اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مثلا، فهو ليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد في شيء أبدا، و إنما هو من باب الحالات المقارنة للمتكلم بالآية، لا من المستعمل فيه.

الأمر الرابع عشر: المشتق

اشارة

المعروف أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ عند فعلية التلبّس و حال ظهور الموضوع في مظهر المحمول، و مجاز في غيره. و ظاهر عنوان البحث في كتب القوم أنه في الاستعمال و أنه حقيقة في المتلبس و مجاز فيما انقضى، و ليس البحث في انطباق الكلي على الفرد، لأنه أمر تكويني لا يتصف بالحقيقة و المجاز، بل يتصف بالوجود و العدم، و خارج عن الاستعمال مطلقا، فلا وجه لاحتماله في المقام.

و ذكر المشتق في عنوان البحث إنما هو من باب الغالب لا التخصص، فالمراد به كل محمول يحمل على الموضوع، مشتقا كان أو غيره. فجميع الجوامد المحمولة داخلة في مورد البحث، كقولك: هند زوجة زيد، أو زينب مرأة عمرو، أو بكر غلام خالد، إلى غير ذلك من المحمولات الجامدة.

و ذلك لأن المحمول إما متحد مع الموضوع ماهية، كالإنسان إنسان، أو حيوان ناطق. أو منتزع عن ذات الموضوع و محمول عليه، مثل الأربعة زوج، أو يكون خارجا عن الذات مطلقا، و لكن لا يتصور فيه حال الانقضاء بل جميع حالات الموضوع تكون حال التلبس، كالإنسان ممكن بالإمكان الذاتي مثلا، أو خارج عن الذات مطلقا و يتصور فيه حال الانقضاء، مثل زيد قائم، و عمرو كاتب، إلى غير ذلك من القضايا. و مورد البحث مختص بخصوص القسم الأخير فقط، لأنه يتصور فيه حالات:

ص: 37

فتارة: لم يتلبس الموضوع بالمحمول بعد.

و اخرى: يكون متلبسا به فعلا.

و ثالثة: تلبّس به و انقضى تلبّسه عنه.

و أما القسمان الأولان فليست فيهما إلاّ حالة وحدة، و هي عدم التلبس بعد، و التلبّس بالفعل من كل جهة، و لا خلاف في أن الإطلاق في الأول مجازي، كما لا خلاف و لا إشكال في أنه في الثاني حقيقي، و إنما اختلفوا في الأخير، فالمعروف أنه مجازي، و عن جمع أنه على نحو الحقيقة أيضا. و من ذلك يعرف أن المراد بلفظ الحال في العنوان حالة تلبّس الموضوع بالمحمول، و فعلية صدق المحمول عليه لا غيرها. لا حال النطق - أي زمان التكلم بالقضية - لعدم دلالتها على الزمان، للأصل و الوجدان و الاتفاق.

نعم، تقع كل قضية في الزمان، و هو غير دلالتها عليه، كما هو واضح.

و حال فعلية صدق المحمول هي حال التلبس و حال النسبة المذكورة في كتب القوم.

نعم، حال النسبة بناء على كون المشتق حقيقة في التلبس تكون عينه، و بناء على كونه حقيقة في الأعم يكون موافقا للأعم، كما لا يخفى.

و أما القضايا الأزلية التي تستعمل في صفات الباري عزّ و جلّ الجمالية و الجلالية، فهي خارجة عن المقام بلا كلام، لتنزّه ساحته العليا عن التلبّس و الانقضاء. نعم، في صفات الفعل يتصور ذلك باعتبار المتعلق.

ثم إنه يشهد للتعميم للجوامد النزاع المعروف بين الفريقين في مسألة الرضاع من أنه لو كانت لشخص زوجة رضيعة، و زوجتان كبيرتان، فأرضعت إحدى الكبيرتين الرضيعة حرمتا عليه، لصيرورتهما ام الزوجة، و أما الكبيرة الاخرى إذا أرضعت الرضيعة بعد الاولى فحرمتها مبتنية على أن المشتق حقيقة في الأعم من المتلبّس و من انقضى. و أما إن كان حقيقة في خصوص المتلبّس

ص: 38

فلا تحرم، و قد تعرضنا في المهذب لتفصيل المسألة فراجع.

و لا بد أولا من بيان امور:

الأول: هل يعتبر في صدق المحمول حقيقة على الموضوع بالمحمول؟

مرجع البحث الى أنه هل يعتبر في صدق المحمول حقيقة على الموضوع فعلية تلبس الموضوع بالمحمول، أو يكفي في الصدق الحقيقي صرف وجود التلبس فقط؟ و على هذا، لا فرق بين أنحاء المشتقات مما تدل على الحرف و الصناعات و الملكات و غيرها، لأنه يتصور في جميعها حالة فعلية التلبّس و حالة الانقضاء، فيجري البحث في جميعها، كما لا وجه لإخراج اسم الزمان عن مورد البحث بدعوى أنه لا بد أن يكون الموضوع باقيا في حالتي التلبّس و الانقضاء، و الزمان ليس كذلك، لأنه متصرم و مقتض بذاته، فما هو في حال التلبس شيء و ما هو في حال الانقضاء شيء آخر، فليس شيء واحد محفوظا في الحالتين، إذ فيه إمكان تحقق بقاء شيء واحد فيهما، كطبيعي الزمان، أو الوحدة الاعتبارية الملحوظة، أو وجود الزمان من حيث هو وجود، إلى غير ذلك من الجامع المفهومي، أو الوجودي، أو الاعتباري، على نحو ما مرّ في جامع الصحيح و الأعم.

الثاني: خروج المصادر و الافعال عن مورد النزاع

لا ريب في خروج المصادر و الأفعال عن مورد النزاع، لعدم حملها على الذات، بلا فرق بينهما من هذه الجهة. نعم، الفرق بينهما أن المصدر يدل على الحدث من حيث هو حدث مع قطع النظر عن إضافته إلى الفاعل.

و الفعل يدل على الحدث المضاف إلى جهات، منها الإضافة إلى الفاعل، فهي ملحوظة في معنى الفعل بخلاف المصدر.

و قد يفرّق بينهما بدلالة الفعل على الزمان وضعا، بخلاف المصدر، و لكن يرد عليه: بأن الفعل مركب من المادة و الهيئة، و الدال على الزمان إما المادة فقط، أو الهيئة كذلك، أو هما معا.

و الكل مردود: أما الأول: فلأنه لو دلّت المادة على الزمان لدلّت المصادر

ص: 39

عليه أيضا، لوجود المادة فيها.

و أما الأخيران: فمقتضى الأصل عدم الوضع كذلك، مع أنه لغو، لاستفادة الزمان من إطلاق الفعل على الزمانيات - كما يأتي - مضافا إلى أن الهيئة من المعاني الحرفية، و الزمان من المعاني الاسمية الاستقلالية، إلا أن يقال: الموضوع له مجرد النسبة الزمانية و هو من المعاني الحرفية، و لكن الأصل ينفي هذا الوضع المشكوك فيه، مضافا إلى أن الأفعال الإنشائية مطلقا لا تدل على الزمان. نعم، تقع في زمان الحال و هو أعم من الوضع للزمان، كما عرفت.

مع أنه يصح إطلاق الأفعال بالنسبة إليه تعالى، و هو عزّ و جلّ محيط على الزمان، و لا وجه لتصور الماضي و المستقبل و الحال بالنسبة إليه تبارك و تعالى، إلاّ أن يقال: إن الإطلاق بالنسبة إليه تعالى إنما هو بحسب مخاطبته عزّ و جلّ مع الزمانيات، لا بالنسبة إلى ذاته تعالى، أو باعتبار معيته القيومية مع الممكنات فإنه عزّ و جل مع السابق سابق و مع اللاحق لا حق. مضافا إلى أنه يستعمل الماضي في المضارع و بالعكس في الاستعمالات الصحيحة، و لا وجه للمجاز في ذلك كله. نعم، لا ريب في أن الإطلاقات في الزمانيات تنصرف في الماضي إلى الزمان السابق، و في المضارع إلى الحال أو الاستقبال، و هذا أعم من الوضع، كما هو واضح. و منشأ هذا الانصراف كثرة استعمال الماضي فيما مضى، و المضارع فيما يأتي، و الأمر في الحال. فهذه الاستفادة مستندة إلى الانصراف الإطلاقي، لا التخصيص الوضعي. و لا ثمرة عملية بل و لا علمية مهمة في هذا البحث بعد اعتبار الظهور و لو لم يستند إلى الوضع. نعم، بناء على المعروف بين الأدباء يكون استعمال الماضي في المضارع و بالعكس مجازا، و بناء على عدم أخذ الزمان فيهما وضعا لا يكون مجازا بل يكون حقيقة، لأن الجامع القريب حينئذ بين الماضي و المضارع إنما هو تحرك الفعل من العدم إلى الوجود، و هو الذي أشار إليه علي عليه السّلام: «الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى»، فكل ما حكم أهل

ص: 40

المحاورة بصحته يصح، و إلاّ فلا يصحّ.

الثالث: فى اشتقاق الافعال، و المناقشة فى ما ذكره القوم، الفرق بين المصدر و اسم المصدر و غيرهما
اشارة

المعروف أن الماضي مشتق من المصدر، و المضارع من الماضي، و اسم الفاعل و المفعول من المضارع، و التثنية و الجمع من المفرد، و لم يستدلوا عليه بشيء، فإن كان ذلك لأنه أسهل للمبتدئ فله وجه، و إلا فلا دليل له من عقل أو نقل، إذ يصح أن تكون جميع الاشتقاقات من المادة المهملة من كل جهة، فضرب، و يضرب، و ضارب، و مضروب، و جميع المتفرعات مشتقة من (ض ر ب) المعراة من الهيئة في عرض واحد بلا ترتب بينها في البين، و ذلك لما هو المعلوم من أن ما كانت له هيئة خاصة لا تصلح أن تقع مادة لشيء آخر له أيضا هيئة مخصوصة، إلاّ بعد زوال هيئته المختصة به. و هذا واضح إن لوحظت المادة مقيدة بالهيئة الخاصة.

و أما إذا لوحظت لا بشرط عنها فيرجع إلى المادة المبهمة المهملة، هذا إذا لوحظ لفظ (الضاد) مقدما، و (الراء) بعده، و (الباء) في الآخر. و إن لوحظ الإبهام من هذه الجهة أيضا تكون هذه الألفاظ المبهمة مادة لمشتقات كثيرة مختلفة في النوع. و على أي حال فالتفرعات و الاشتقاقات عرضية، و لا ملزم لأن تكون طولية.

و الحاصل:

أن الحدث إن لوحظ من حيث مجرد الحدثية من حيث أنه حدث، فهو مصدر، و إن لوحظ من حيث أنه موجود من الموجودات مع قطع النظر عن جهة الحدثية، فهو اسم المصدر، و إن لوحظ من حيث النسبة إلى الفاعل بالنسبة التحققية يعبر عنه بالماضي، و إن لوحظ من حيث النسبة إليه بالنسبة التلبّسية يعبر عنه بالمضارع، و إن لوحظ من حيث النسبة الاتحادية فهو اسم الفاعل أو المفعول أو غيرهما من الصفات المتحدة مع الذات المحمولة عليه، بلا فرق بين كون هذه الملاحظات بالترتيب المعهود بين الأدباء، أو بنحو آخر بأي نحو يتصور.

ص: 41

الرابع: الفرق بين مفاد هيئات الأفعال، و مفادها في الأسماء المشتقة

، أن الاولى للربط الانتسابي إلى الفاعل في الجملة، و الثانية للربط الاتحادي بينهما و بين الموضوعات التي تحمل تلك الأسماء عليها. و كذا هيئة الجملة المركبة من الموضوع و المحمول فيما لم يكن المحمول مشتقا.

و أما الفرق بينهما بما قيل من أن النسبة في الأفعال من النسبة التصديقية، و في الأسماء المحمولة من النسبة التصورية. فلا كلية فيه، بل هو تابع للقرائن، فقد تدل على أنها في الأسماء من النسبة التصديقية، كما أنها قد تدل على أنها في الأفعال من النسب التصورية، و مع عدم القرائن فكل منهما يحتمل الأمرين.

الخامس: لا أصل في المسألة الاصولية يثبت به الوضع للمتلبّس أو للأعم
اشارة

، لأن أصالة عدم ملاحظة حالة التلبّس، فيكون موضوعا للأعم معارضة بأصالة عدم ملاحظة الأعم، فيسقطان بالمعارضة.

و ما يتوهم: من كفاية أصالة عدم ملاحظة حالة التلبس للوضع للأعم، لأن المقام من المطلق و المقيد، لا من المتباينين.

مردود: بأنه من الأخير عرفا، لأن المتلبس و ما انقضى عنه التلبس متباينان وجدانا، فيتعارض الأصلان و يسقطان بالمعارضة لا محالة، كما أن التمسك بأصالة الإطلاق و العموم لحال الانقضاء لا وجه له، لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. مضافا إلى أنها - على فرض الصحة - لا تثبت الحقيقة، لأن الظهور الإطلاقي و العمومي أعم منها، كما هو واضح.

كما أن كون الوضع للأعم من الاشتراك المعنوي، و كون الوضع للخصوص مع الاستعمال في الأعم من الحقيقة و المجاز، و عند الدوران بين الاشتراك المعنوي، و الحقيقة و المجاز، يكون الأول مقدما على الأخير، لا دليل عليه.

بل نحو استحسان، و يمكن فرض الاستحسان في تقديم الحقيقة

ص: 42

و المجاز أيضا بل بالأولى، لأن الفصاحة و البلاغة تدور على المجازات و الاستعارات و الكنايات.

نعم، يصح التمسك بالاصول العملية في المسألة الفقهية، و هي إما حكمية أو موضوعية و تختلف بحسب اختلاف الموارد، فإن حصل الانقضاء بعد صدور الخطاب، فمقتضى استصحاب الحكم بقاؤه.

و إن حصل قبله، فمقتضى أصالة البراءة عدم التكليف لو لم يكن أصل موضوعي في البين على الخلاف، و لا ربط لهذه الاصول بالمسألة الأصولية أصلا، لكونها من وظائف الفقه و الفقيه، كما في إجراء الاصول العملية في جميع الموارد من الشبهات الحكمية.

ثم إن التحقيق - كما عليه أهله - هو الوضع لخصوص المتلبّس، و تدل عليه مرتكزات العقلاء، و تبادر خصوص المتلبّس، و صحة السلب عما انقضى، و ما يأتي من إثبات بساطة المشتق الملازم للوضع لخصوص المتلبس فقط، مضافا إلى صدق ما يضاد حالة التلبّس على حالة الانقضاء. فلو كان شخص متحركا فسكن، يصدق الساكن عليه بعد انقضاء التحرك عنه، فإن صدق المتحرك عليه أيضا، فهو من اجتماع الضدين، و لا يتوهمه عاقل إلا مع اختلاف الجهة، و هو خلاف الفرض.

أدلة القائلين بان الوضع للاعم و الجواب عنها

إن قلت: لا وجه لصحة السلب في المقام، لأنها إن كانت مطلقا حتى بالنسبة إلى حالة التلبس، فهي كاذبة قطعا. و إن كانت مقيدة بحال الانقضاء فلا تكون علامة للمجاز، لأن العلامة له ما كانت مطلقة، لا ما كانت مقيدة.

قلت: هي باعتبار حالة الانقضاء فقط، و ليس المقام من الإطلاق و التقييد، بل من المتباينين، لأن حالة التلبّس مباينة مع حالة الانقضاء عرفا، بل دقة أيضا، مع أنه لو كان من الإطلاق و التقييد الاصطلاحي تكون بلحاظ حال القيد - الذي هو الانقضاء - علامة للمجاز وجدانا، و هو المطلوب. و ليس المراد إثبات

ص: 43

المجازية حتى بالنسبة إلى حال التلبس حتى يلزم الكذب.

و دعوى: أن علامة المجاز صحة السلب بقول مطلق، مما لا دليل عليها، بل العلامة صحة السلب بنحو تكون معتبرة عند المحاورة أعم من المطلق و غيره، فكلما صدق صحة السلب تصدق المجازية أيضا، فليست هذه الأمارات حاكمة على الوجدان مطلقا.

و قد استدل للأعم تارة بالتبادر، و اخرى بعدم صحة السلب عما انقضى، و فيهما ما لا يخفى. و ثالثة باستدلال المعصوم عليه السّلام بالآية الكريمة: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ على عدم لياقة من كان مشركا و أسلم لخلافة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا يتم الاستدلال إلا بناء على الأعم.

و يمكن المناقشة فيه: بأن الخلافة من المراتب الشريفة التي لا ينالها من كان مشركا و لو انقضى عنه الشرك و آمن بعد ذلك، للأدلة الدالة على اعتبار العصمة من المعاصي مطلقا في الخلافة الإلهية، فضلا عن الشرك. و لو اريد من الظلم في الآية الشريفة مطلق المعصية أعم من الشرك، لا يتوقف الاستدلال على دعوى كون المشتق حقيقة في الأعم، لأن القوم كانوا ظالمين بهذا المعنى حين تقمص الخلافة، كما لا يخفى على من راجع المطاعن الواردة فيهم من الطرفين.

بل تصوير الوضع للأعم ثبوتا مشكل، أما بناء على بساطة المشتق - كما هو الحق - فلا فرق بينه و بين المبدأ إلاّ بالحمل، و لا يعقل فرض الوضع للأعم بالنسبة إلى المبدأ - و أما بناء على التركب: فالنسبة إما أن تلحظ مهملة من كل جهة و لازمه الصدق الحقيقي بحسب الاستقبال أيضا مع اتفاقهم على أنه مجاز فيه. و إما أن تلحظ بالنسبة إلى حال التلبس فهو عين الوضع للمتلبس. و إما أن تلحظ بالنسبة إلى الأعم منه و ممّن انقضى، و هو خلاف مفهوم النسبة و معناها، لأن معناها الخروج من العدم إلى الوجود و هو ليس إلاّ حال التلبّس فقط، فلا

ص: 44

وجه معقول للوضع للأعم ثبوتا حتى يستدل عليه إثباتا.

ثم إن الاصوليين اتفقوا على أن معنى المشتق بسيط لحاظا و اعتبارا، بمعنى أن الملحوظ من (عالم) مثلا شيء واحد، و إن انحل بالدقة العقلية الى معروض و عرض. و لكن اختلفوا في أنه كذلك في مقام التبادر اللفظي أيضا، أو أنه مركب فيه.

و الحق هو الأول، لأن المتبادر من كل واحد من العالم، و الضارب شيء واحد يعبر عنه في الفارسية ب (دانا) و ب (زننده) و إن انحل بالدقة العقلية إلى شيئين، و لكن لا ربط للدقيات العقلية بالتبادرات اللفظية، و لا ملازمة بين البساطة التبادرية و البساطة الدقية أيضا. فكما أن المتبادر من كل واحد من البيت و الجدار و الكتاب شيء واحد عرفا مع كونها مركبة في الواقع من الأجزاء، فكذا المقام يكون المتبادر من المشتق شيء واحد و إن انحل في الواقع إلى شيئين، و لا يضر الانحلال الواقعي بالبساطة التبادرية، فالعرف أصدق شاهد على البساطة التبادرية، و فيه غنى و كفاية.

و لا وجه لما استدل به عليها من أنه إن تركب المشتق من الشيء و المبدأ، يلزم دخول العرض العام في الذاتي في جميع القضايا التي تكون محمولاتها ذاتيا للموضوع، كالإنسان ناطق مثلا، لكون الشيء عرضا عاما بالنسبة إلى جميع الأنواع، و إن تركب من الذات و المبدأ، لزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية في جميع القضايا الممكنة التي تكون محمولاتها من عوارض الموضوع، كزيد كاتب مثلا، لصيرورة ذات الموضوع حينئذ جزء للمحمول، فتصير ضرورية لا محالة، لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري. و ذلك لإمكان اختيار الشق الأول، و لا يلزم دخول العرض العام في الذاتي.

أما أولا: فلأن جميع تلك المحمولات في تلك القضايا من الخواص الكاشفة عن الذاتيات، لا أن تكون ذاتية بنفسها.

ص: 45

و أما ثانيا: فلأن الشيء ينطبق قهرا على الحصص المختلفة التي تكون مع الذاتي ذاتيا و مع غيره عرضيا، فيرجع الإشكال إلى الشق الثاني، و يأتي الجواب عنه.

و يمكن اختيار الشق الأخير أيضا و لا يلزم المحذور، لأن الذات أخذ في طرف المحمول مرآة لتعرف الموضوع، و بمنزلة الرابط، لا أن يكون مستقلا حتى يكون هو المحمول و يلزم المحذور، فكأنه قيل في (زيد كاتب) مثلا، زيد يظهر بهذا الوصف، أو هذه الصفة من مظاهر زيد، و لا محذور فيه، و لو لوحظ مستقلا أيضا على ما فصّل، فكما أنه لو قام شخص مقابل المرآة لا تحصل فيها إلاّ صورة واحدة، فكذلك تكون مرآة النفس، فالتبادرات المحاورية لا تكون إلاّ صورة واحدة، مع أن القضايا المعمولة في العلوم ليست مبنيّة على هذه الدقائق، بل منزّلة على المتعارف بين أهل المحاورة، فربّ شيء لا يصح بالدقة العقلية مع أنه يصح في المحاورات، و ربّ شيء يكون بالعكس، فلا وجه للاستدلال.

و قد ذكرنا أنه لا ثمرة في بساطة المشتق و تركبه، بل لا ثمرة عملية في أصل بحث المشتق، لأن الموارد التي ادعي استعماله فيها في الأعم تكون هناك قرائن معتبرة دالة على ترتب الحكم على الأعم.

ثم إنه قد استدل على التركيب..

تارة: بأن العرض متقوّم بالموضوع، فيحصل التركب لا محالة.

و فيه: إن التقوّم إنما هو في الوجود الخارجي لا في المفهوم، و الكلام في الثاني دون الأول.

و اخرى: بأن المشتق متضمن للنسبة، و هي لا بد أن تكون بين اثنين منتسبين، فيتحقق التركب لا محالة.

و فيه: أنه كذلك في تحليل العقل، و الكلام في المفهوم في المحاورات العرفية.

ص: 46

و يمكن أن يرفع النزاع و جعله نزاعا لفظيا، فمن يقول بالبساطة، أي لم يؤخذ شيء متعين من مفهوم المشتق، و من يقول بالتركب، أي اخذ فيه شيء مبهم من كل جهة حتى من الإبهام و الشيئية، فيكون من الشبح المحض، مثل الظل و ذي الظل، و الظاهر كون هذا مطابقا للوجدان في الجملة. أو يكون مراد من يثبت التركب أي بلحاظ الحمل، و من البساطة أي مع قطع النظر عنه.

فائدتان:
الاولى: لا ريب في صحة حمل المشتق - كما عليه تدور المحاورات -

بخلاف المبدأ، فإنه لا يحمل إلاّ بالعناية. و هذا الفرق من لوازمها غير المنفكة لا أن يكون بالاعتبار، بأنه إن اعتبر المبدأ لا بشرط يصح حمله، و إن اعتبر بشرط لا لم يصح، و ذلك لعدم الصحة في المحاورات و إن اعتبر لا بشرط. كما أنه يصح حمل المشتق و إن اعتبر بشرط لا، فلا أثر لهذا الاعتبار في ذلك، بل الفرق بينهما في الحمل و عدمه من قبيل لوازم الذات.

ثم إنه يكفي في صحة الحمل حسن الإضافة بين المحمول و الموضوع مطلقا بأي وجه كان، سواء كان على نحو الصدور، أم الحلول، أم الوقوع عليه، أم فيه، أم الانتزاع مع الواسطة، أم بدونها، و سواء كان على نحو الحقيقة، أم المجاز المستحسن عرفا.

و يعتبر في الحمل المغايرة في الجملة و الاتحاد كذلك، و هما لا يخلوان عن أقسام ثلاثة:

الأول: أن تكون المغايرة اعتبارية و الاتحاد مفهوميا، كقول: الإنسان إنسان.

الثاني: أن تكون المغايرة حقيقية و الاتحاد وجوديا، كقول: زيد كاتب.

الثالث: أن تكون المغايرة حقيقة و الاتحاد اعتباريا، كقول: زيد أسد.

و الكل صحيح لا إشكال فيه، بل تصح المغايرة و الاتحاد بأي وجه معتبر

ص: 47

في المحاورات العرفية المختلفة باختلاف الأزمنة و الأمكنة و سائر الجهات، و لا دليل على الحصر في موارد خاصة.

الثانية: لا ريب في صحة إطلاق صفات الكمال عليه تبارك و تعالى

كالقادر، و العالم، و الحيّ، كما ورد في القرآن الكريم، و الدعوات الشريفة. كما لا ريب في أن الإطلاق فيه تعالى بالوجوب و التمام، و في غيره بالإمكان و النقصان.

و إنما الكلام في أن هذا الإطلاق عليه تعالى و على غيره يكون على نحو الاشتراك المعنوي، و الفرق إنما هو بحسب الوجوب و الإمكان و التمام و النقصان، كما أثبتوا ذلك في بحث الاشتراك من مباحث الحكمة و الكلام، أو أن الإطلاق عليه تعالى بمعنى نفي الضد، فقولنا: إنه تعالى عالم، أي لا يجهل شيئا، و قادر أي لا يعجزه شيء، و سميع أي لا تخفى عليه المسموعات، إلى غير ذلك من أنحاء الصفات.

الحق هو الأخير، كما في جملة من الروايات، و لا يلزم من ذلك الاشتراك اللفظي، لأن العالم مثلا موضوع لمعنى واحد مطلقا، و هو ما يصح أن يعبّر عنه بالعالم، سواء كان ذلك لإثبات العلم بالنسبة إليه، أم لنفي الجهل عنه. و كذا في باقي الصفات، بل يصح إرجاع الصفات إلى نفي الأضداد في غيره تعالى أيضا، و لا محذور فيه، كما صرّح به بعض أعاظم الحكماء.

ص: 48

المقصد الأول مباحث الألفاظ

اشارة

ص: 49

ص: 50

القسم الأول: الأوامر و البحث فيها يقع ضمن امور:

تقديم:

إن جميع ما يذكر في مباحث الألفاظ في صناعة الاصول إنما هو تشخيص صغريات أصالة حجية الظهور، التي هي من أهم الاصول النظامية العقلائية، فلا بد من الوقوف عند جميع تلك الصغريات على باب العرف، لأنه المرجع في ذلك كله. و منه يعلم أن جملة كثيرة من التطويلات لا وجه لها في هذه العرفيات العامة البلوى.

الأمر الأول في مادة الأمر

اشارة

و فيه جهات من البحث:

الجهة الاولى: معانى الامر فى اللغة

قد ذكر في اللغة للفظ الأمر معان متعددة، كالشأن، و الفعل و الحادثة، و نحوها، و مقتضى الأصل عدم التعدد إلاّ في ما لا يمكن إرجاعه إلى

ص: 51

جامع قريب عرفي، و في ما أمكن ذلك يكون من المشترك المعنوي لا اللفظي.

و قد ذكر من معاني الأمر الطلب، و الشيء، مع أنه قد يصح استعمال الطلب في مورد و لا يصح استعمال الأمر فيه، كقولك: يا طالب الدنيا، و قولك:

طلبت شيئا فما وجدته. كما أنه يصح استعمال الشيء بالنسبة إلى الأعيان الخارجية و لا يصح استعمال الأمر بالنسبة إليها، إلاّ أن يكون مرادهم المعنى في الجملة، لا بنحو الكليّة.

و أما بحسب العرف - الذي منه الاصطلاح الاصولي - فهو عبارة عن البعث بلفظ افعل، أو ما يقوم مقامه، و تصح الاشتقاقات منه باعتبار تضمنه معنى البعث، و هو معنى حدثي قابل للاشتقاق و التفرع، و ليس المراد أن يكون لفظ الأمر موضوعا للقول المخصوص حتى يكون مثل لفظ الاسم الموضوع لكلمة مخصوصة حتى لا يصح الاشتقاق منه، لأنه ليس فيه معنى حدثيّ. هذا مع الظهور فيه، و أما مع الإجمال فالمرجع هو الأصل العملي عن التكليف.

الجهة الثانية: تقوم الامر بالعلو و اما الاستعلاء فلا دليل عليه، و البحث ذلك

مقتضى الارتكازات تقوّم معنى الأمر بالعلو. و أما الاستعلاء فالأصل عدم اعتباره، فيكون الأمر الصادر من العالي الخافض لجناحه أمرا بخلاف ما صدر من الخافض أو المساوي، فلا يسمى ذلك أمرا عرفا، بل ربما يوجب التوبيخ و التقبيح إن كان على نحو الأمر المعهود و لم يكن من السؤال و الالتماس.

ثم إن مادة الأمر في أيّ هيئة استعملت ظاهرة في الوجوب، إلاّ مع القرينة على الخلاف، لانسباق الوجوب منها في المحاورات.

الجهة الثالثة: اختلاف الطلب و الإرادة مفهوما، و ان الطلب مبرز للارادة لا ان يكون عينها البحث فى اتحاد الطلب و الارادة انشاء
اشارة

يختلف الطلب و الإرادة مفهوما، إذ ربما تستعمل الإرادة فيما لا يصح استعمال الطلب فيه، كقوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ، و قوله تعالى: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، و كقولك: «أردت الصلاة فصليت»، إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة. كما أنه يستعمل الطلب

ص: 52

فيما يشكل استعمال الإرادة فيه، كقولك: «طلبت حقي من زيد فأنكر». نعم، لا ريب في تصادقهما في الجملة، و لكنه لا يدل على الاتحاد بالكلية.

و الظاهر من المحاورات أن الطلب مبرز للإرادة لا عينها، و نسبة الطلب إلى الإرادة نسبة اللفظ إلى المعنى في الجملة، و نسبة الكاشف إلى المكشوف مفهوما و حقيقة و استعمالا، و إن اريد من الاتحاد هذا النحو منه، فلا ريب فيه في الجملة، بل الظاهر اختلافهما عرفا أيضا، لأن إحراز الطلب يكفي في إتمام الحجة و صحة المؤاخذة على ترك المطلوب من حيث أنه إحراز للطلب بخلاف إحراز الإرادة، فإنه كإحراز الملاك لا بد من كفايته في إتمام الحجة من إقامة دليل عليها من سيرة أو نحوها.

و أما اتحادهما إنشاء فهو مبني على أن يكون مفاد الأمر إنشاء الطلب، و هو مردود، لأن مفاده البعث، و التحريك نحو المتعلق، فكما يحصل البعث بالترغيب إلى المصلحة، و الزجر عن الترك، يحصل بلفظ (افعل) أيضا، فلا موضوع لإنشاء الطلب حتى يبحث عن أنه متحد مع إنشاء الإرادة، أو لا.

و من ذلك كله يظهر اختلافهما بالدقة العقلية أيضا، كما تقدم من أن الطلب عنوان مظهر الإرادة، و نسبته إليها نسبة اللفظ إلى المعنى، كما لا يخفى.

مع أن من ادعى الاتحاد بينهما لم يأت بدليل عليه إلاّ دعوى الوجدان.

و يمكن رفع النزاع من البين بأن من يدعي الاتحاد يريد به الاتحاد في الجملة، و من يدعي الاختلاف يدعيه كذلك، إذ لا ريب عند أحد في تصادقهما في الجملة.

و لا يخفى أن ما اثبتناه من تغاير الطلب و الإرادة ليس لدفع محذور شبهة تخلف المراد عن الإرادة - كما التزم به الأشاعرة - بل لأجل أن التحقيق يقتضي ذلك، و نجيب عنها بوجه آخر على ما يأتي.

ثم إنه قد جرت العادة في المقام بذكر شبهة الجبر، و شبهة تخلف المراد

ص: 53

عن الإرادة، و شبهة الكلام النفسي، و دفعها، مع أن كل ذلك لا ربط له بالاصول.

الكلام فى شبهة الجبر
أما الشبهة الاولى، فهي مورد البحث في جميع الأديان - سماوية كانت أو غيرها - و هي من الشبهات القديمة جدا. و عمدة المذاهب في أعمال العباد خمسة: ثلاثة منها جبر، و الرابع تفويض، و الخامس أمر بين الأمرين.

الأول من مذاهب الجبر: ما نسب إلى الأشاعرة من نفي الإرادة و الاختيار عن العبد مطلقا، و قالوا: إن نسبة الفعل إلى اللّه بالحقيقة و إلى العبد بالمجاز، و إن العبد بالنسبة إليه تعالى، كالقلم في يد الكاتب، و السيف في يد القاتل. و من أمثلتهم: قال الحائط للوتد: لم تشقّني؟ قال: سل عمن يدقّني. و استدلوا عليه بظواهر بعض الآيات، كقوله تعالى: وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ، و قوله تعالى:

وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. و أن التوحيد الخالص في الفعل يقتضي نفي الإرادة و الاختيار عما سوى اللّه تعالى.

و يرد عليه.. أولا: أن تلك الآيات معارضة بما هو أقوى منها في الدلالة على نسبة الفعل إلى العبد، كقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، و يصح نسبة خلق عمل العبد إليه تعالى بالتسبيب مع اختيار العبد، كما يأتي. و نفي الرمي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة، لا بالنسبة إلى الفعل المباشري الصادر منه صلّى اللّه عليه و آله.

و ثانيا: أنه مستلزم لنفي الحسن و القبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء.

و ثالثا: أنه يلزم منه نفي استحقاق الثواب و العقاب المتفق عليهما في جميع الشرائع الإلهية إلى غير ذلك من المفاسد التي يأبى العقل عنها.

و لو لا ظهور بعض كلماتهم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه، كالعزّة، و الذلّة، و الغنى و الفقر و نحوهما، و يمكن أن يحمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي، يعني أن مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها، و لكنه تعالى جعل للإنسان بل مطلق

ص: 54

الحيوان، إرادة في الجملة لمصالح كثيرة، و الجبر الاقتضائي لا ينافي الاختيار الفعلي من العبد.

الثاني: ما ذهب إليه جمع من القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة، فلا اثنينيّة بين الخالق و العبد حتى تكون فيه الإرادة و الاختيار، لأن ثبوتهما للعبد يتوقف على تعدد وجوده مع وجود اللّه تعالى، و مع الوحدة لا اثنينيّة في البين، فلا وجه لهما بالنسبة إلى العبد في مقابل اللّه تعالى.

و فيه: مضافا إلى جميع ما ورد على قول الأشاعرة، أنه قد ثبت في محله بطلان القول بوحدة الوجود مطلقا فضلا عن الوحدة المطلقة، بل قد ثبت في الفقه أن هذا القول كفر مع الالتزام بلوازمه.

الثالث: ما عن بعض من أن علم اللّه تبارك و تعالى علة تامة لحصول معلوماته، و فعل العبد معلوم له تعالى، فعلمه تعالى علة تامة لحصوله، فلا أثر لإرادة العبد و اختياره في فعله أصلا.

و فيه: أنه لم يدل دليل من عقل أو نقل على كون العلم علة لحصول المعلوم، بل مقتضى الوجدان خلافه، و في جملة من الأخبار الواردة في باب أسباب الفعل - التي جمعها في الكافي - دلالة عليه أيضا، فراجع.

نعم، يعلم اللّه تعالى أن العباد يفعلون أعمالهم بإرادتهم و اختيارهم، بحيث أن لهم أن يفعلوا و لهم أن يتركوا، فتعلّق علمه تعالى بأفعالهم من حيث أنها مختارة، لا أن يتعلّق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.

ثم إن أسباب الفعل هي: المشيئة، و الإرادة، و القدر و القضاء، و الإمضاء و نحوها، و هي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر، سواء كان هو اللّه تعالى أم العباد.

و الفرق بين المشيئة و الإرادة بالكلية و الجزئية، و كل ذلك من المقتضيات، و ليست من العلة التامة في شيء.

ص: 55

و هذه كلها تارة التفاتية تفصيلية، و اخرى على نحو الإجمال و الارتكاز و هو الغالب.

الرابع من المذاهب في أفعال العباد: التفويض، و نسب إلى المعتزلة، فقالوا: إن الأفعال منسوبة إلى العباد بالحقيقة و إلى اللّه تعالى بالمجاز، و أنه لا تكون أفعال العباد مورد إرادة اللّه تعالى أصلا، و إنما هي مختارة باختيارهم فقط، و لا دخل لاختياره تعالى فيها، لأنه لو كانت أفعال العباد موردا لإرادته تعالى لزم الجبر، مع أنه لا يصح أن تكون السيئات و الأفعال القبيحة موردا لإرادته تعالى.

و فيه: انه مردود عقلا و نقلا، أما الأول فلما يأتي من بيان الأمر بين الأمرين. و أما الثاني فلقوله تعالى: إِيّاكَ نَسْتَعِينُ، و قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ.

و لما ورد من المعصومين من قول: «لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه»، و لما ورد في الدعوات الكثيرة من الاستعانة به تعالى في جميع الامور.

و الجميع ظاهر ظهورا عرفيا في صحة إضافة أعمال العباد إلى اللّه تعالى، إما بنحو القضاء و الرضا معا، كما في الحسنات، أو على نحو القضاء فقط، كما في السيئات. و قضاؤه تعالى ليس من العلة التامة المنحصرة في شيء أبدا، و إلاّ فهو جبر باطل.

و يمكن حمل كلامهم على التفويض الاقتضائي، بأن يقال إن نهاية استغنائه تعالى عن خلقه تقتضي إيكال الإرادة إلى العباد بعد بيان طريق الحق و الباطل و إتمام الحجة عليهم، و لكنه تعالى لم يفعل ذلك لمصالح كثيرة، بل جعل إرادته عزّ و جلّ مسيطرة على إرادة عباده على نحو لا يلزم منه الجبر، و هذا هو عين الأمر بين الأمرين الذي يأتي بيانه، و على هذا فلا نزاع في حاق الواقع بين المسلمين.

و أما الأمر بين الأمرين، فهو ما ورد عن أئمة الدين أنه: «لا جبر و لا

ص: 56

تفويض بل أمر بين الأمرين»، و هو الحق المطابق للوجدان و البرهان، و قد ذكروا في بيانه وجوها:

أولها: أن أفعال العباد إما من الحسنات، أو من المباحات، أو من السيئات و لا رابع في البين.

و لا ريب في أن الأمر بين الأمرين متقوّم بالانتساب إليه تعالى و إلى العباد انتسابا يحكم بصحته العقلاء، و من رضائه تعالى بالحسنات و ترغيبه إليها، و التأكيد في إتيانها و الثواب عليه و العقاب على الترك في بعضها، يصح الانتساب إليه تعالى - و أي انتساب أقوى و أحسن من ذلك - و يسمى بالانتساب الاقتضائي، لا يبلغ حدّ الإلجاء و الاضطرار.

و من إذنه تعالى في المباحات و ترخيصه لها، صح انتسابها إليه تعالى اقتضاء أيضا، كما تقدم في الحسنات. فتحقق بالنسبة إلى الحسنات و المباحات رضاؤه تعالى بها و قضاؤه لها.

و من خلقه تعالى للنفس الأمّارة و الشيطان، صح نسبة السيئات إليه تعالى، لكونه خالقا لمنشئها، و هذا الوجه يجري في الأولين أيضا، لأن خلق ذواتنا خلق لأفعالنا بالعرض.

و بالجملة يصح نسبة الخلق التسبيبي إليه تعالى في الجميع، من الحسنات و المباحات و السيئات.

إن قيل: إنه تعالى منزّه عن انتساب السيئة إليه مطلقا.

قلت: لا وجه للانتساب إليه تعالى بمعنى رضائه بها و ترغيبه إليها بلا إشكال فيه من أحد، بل هو لغو. نعم، هو تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئة مع نهيه عنها، و إظهار سخطه و توعيده عليها، و قد فعلها العبد بسوء اختياره، فمنشأ النسبة إليه تعالى من جهة أنه خلق الذات القادرة المختارة مع ابلاغ النهي و التوعيد، و قد علم بها و قضاها على نحو الاقتضاء لا القضاء الحتم،

ص: 57

و لا منقصة في هذا القسم من النسبة أبدا. و لعل هذا أحد معاني قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً.

و بعبارة أوجز: أن في الحسنات و المباحات تعدد جهة الانتساب إليه تعالى من الرضاء و القضاء، و الإذن و الترغيب، و خلق الذات القادرة المختارة.

و في السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة، و القضاء بنحو الاقتضاء مع النهي و التوعيد و إتمام الحجة على الترك من كل جهة، و كل ذلك موافق لقانون العقل و العدل.

ثانيها: أن لكل فعل أسبابا خفية لا تدركها العقول، و أسبابا ظاهرة تدركها، و الاولى يصح أن تكون من اللّه تعالى، و الثانية من العبد.

ثالثها: أن يكون المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من اللّه تعالى، و هو محسوس لكل أحد، فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته و كم غير مريد يصادفه ما يشتهيه.

إن قلت: بعد ما اشتهر من أنّ السعيد من سعد في بطن أمه، و الشقي من شقي في بطن أمّه، و ما ورد في الأخبار من أن الإنسان مركب من طينة العلّيّين، و طينة السّجّين، و مصير الاولى إلى الجنّة و الثانية إلى النار، لا أثر للاختيار.

قلت: يجاب عنه بوجوه: منها أن المراد بالسعادة الحظوظ الدنيوية، و بالشقاوة الحرمان عنها، المستندة إلى الأسباب الخفية التي قصرت العقول عن الإحاطة بها.

و منها: ما في مرسل ابن أبي عمير: «سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام: عن معنى قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الشقي من شقي في بطن أمّه، و السّعيد من سعد في بطن أمّه؟ فقال عليه السّلام: الشّقيّ من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل الأشقياء، و السّعيد من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل السعداء...».

و منها: ما في بعض الأخبار أنه يكتب في جبينه - و هو في بطن أمه - ما

ص: 58

سيئول إليه أمره من الشقاوة أو السعادة، و في بعض الأخبار: «السعيد من ختم اللّه له بالسعادة، و الشّقيّ من ختم له بالشقاوة»، و في جملة من الدعوات المعتبرة:

«اللّهم إن كنت شقيّا فامحني و اكتبني من السعداء».

و على أي تقدير السعادة و الشقاوة المنسوبتان إلى جعله تعالى اقتضائيتان، لا على نحو العلة التامة المنحصرة الذاتية، لأنه مع الشقاوة و السعادة الذاتية يلزم منه توالي فاسدات لا يرتضيها العقل و العقلاء، و تصير هذه الدعوات باطلة، كما لا يخفى.

و أما ما ورد في الطينة، فلا تدل على أنها علة تامة منحصرة، بل غايتها إثبات الاقتضاء لها في الجملة، ثم بعد الخلط بين الطينتين يصير الاقتضاء أيضا ضعيفا، فقد خلق اللّه تعالى الإنسان من مقتضى الخيرات، و من مقتضى الشرور لمصالح شتى، ثم خلق فيه العقل و الاختيار، ثم بعث الرسل و أنزل الكتب و بشّر بالثواب على الخيرات و أنذر بالعقاب على الشرور، و خلق الجنة و النار، فلا منشأ لتوهم الجبر و التفويض في أفعال العباد، كما ورد تفصيل ذلك في الأخبار عن الأئمّة الأطهار، و تدل عليه الأدلة العقلية، كما فصّل في محله.

ثم إنه لا اختصاص للأمر بين الأمرين بخصوص أفعال العباد، بل يجري في جميع المعلولات الحاصلة بالعلل التكوينية، فالنبات الذي ينبت في الربيع - مثلا - ينسب إلى المقتضيات التكوينية، كما ينسب إلى إرادة اللّه تعالى، و كذا في تكوين الإنسان و الحيوان، و الدم، و اللحم، و غيرها مما لا يحصى.

و أما الشبهة الثانية - و هي شبهة تخلّف المراد عن الإرادة -

فبيانها: أن اللّه تبارك و تعالى إما أن يكون قد أراد الإيمان و الطاعة من الأنام أو لا فعلى الأول يلزم أن لا يتحقق كافر و لا فاسق، لامتناع تخلّف مراده تعالى عن إرادته. و على الثاني يلزم أن يكون إنزال الكتب و إرسال الرسل لغوا باطلا.

و اجيب عنها بوجوه..

ص: 59

منها: القول بتغاير الطلب و الإرادة، و أن ما هو في مورد إيمان العباد إنما هو الطلب دون الإرادة، و تخلّف الطلب عن المطلوب ممكن، و إن لم يمكن تخلّف المراد عن الإرادة.

و فيه ما لا يخفى: فإنّه مجرد الدعوى، مع أن نفي الإرادة في مورد إيمان العباد خلاف ظواهر جملة من الآيات و الروايات.

و منها: أن الإرادة إنما هي الفعل و الإحداث، فهي من صفات الفعل، سواء كانت في اللّه تعالى، أم في العبد، و لا تخلّف لمراده تعالى عن إرادته في المقام، لأن فعله تعالى بالنسبة إلى العبيد هو الدعوة إلى الإيمان و البعث نحو الخيرات، و الزجر عن الشرور، و قد فعله اللّه تعالى بإنزال الكتب و بعث الرسل بالنحو الأتم الأكمل، فلا وجه لتخلّف المراد عن الإرادة.

و منها: أن الإرادة علة تامة لحصول المراد، إن لم يكن اختيار الغير فاصلا بين الإرادة و المراد. و أما مع فصله فلا وجه لكونها علة تامة، و إلا لزم الجبر حينئذ مع اختيار الإيمان، بل و مع اختيار الفسق و العصيان أيضا. و تقدم في دفع شبهة الجبر ما ينفع المقام، فراجع.

و أما الشبهة الثالثة - في شبهة الكلام النفسى

و هي شبهة الكلام النفسي - فقيل فيها: أنه لا ريب في صق المتكلم عليه تعالى، و قال عزّ من قائل: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً. فإن كان المراد بالتكلّم فيه تعالى نفس هذه الأصوات و الحروف و الهيئات المستحدثة، لزم كونه تعالى محلا للحوادث، و هو تعالى منزّه عنها.

و اجيب عنها: بأن الكلام فيه عزّ و جلّ قديم قائم بذاته، و هو غير العلم، و الإرادة و سائر الصفات، و هذه الحروف و الأصوات و الهيئات مخلوقة كاشفة عنه، لا أن تكون عينه حتى يلزم كونه تعالى محلا للحوادث.

و فيه: أن التكلم عبارة عن إيجاد الحروف و الأصوات و الهيئات الخاصة، سواء كان بالآلات الخاصة، كما في تكلمنا، أم الإبداع كما في تكلّمه تعالى.

ص: 60

فتكلّمه تعالى عبارة عن خلق الأصوات و الحروف و الهيئات، كما أن إيجاده تعالى لسائر الممكنات عبارة عن خلقها، فلا ملزم للكلام النفسي بوجه، لا فيه تعالى و لا في غيره. إلا أن يكون مرادهم به تقدير الكلام و القضاء به قبل خلقه، فله وجه، إذ ما من شيء إلا و له قضاء و قدر مطلقا، سواء كان في فعله تعالى، أم في فعل غيره. و كذا يصح أن يكون المراد بالكلام النفسي النسبة الكلامية القائمة بالطرفين، و لا مشاحة في الاصطلاح. نعم، لا ريب في وجود الأحاديث النفسانية في الإنسان، كما يدل عليه الوجدان، فإن أرادوا بالكلام النفسي في الإنسان ذلك فلا إشكال فيه.

هذا، و في جملة من الروايات التصريح بأن كلامه تعالى حادث، لا أن يكون قديما و لا نفسيا.

ثم إن من فروع الكلام النفسي مسألة أن القرآن مخلوق أو قديم. و لا وجه للقدم في القرآن إلا علمه تعالى الأزلي بما لا نعرف كيفية تعلّقه به، و بغير ذلك لا يتصور معنى للقدم، فلا وجه لكون القرآن قديما أيضا، إلاّ أنه تعالى عالم بما ينزله من القرآن. و القدم بهذا المعنى لا يختص بالقرآن، بل يعمّ جميع ما سوى اللّه تعالى مما يعمه علمه عزّ و جلّ.

ص: 61

الأمر الثاني في صيغة الأمر و الكلام فيها يقع من جهات:

الجهة الاولى: معاني صيغة الامر

قد ذكر لصيغة الأمر معان كثيرة: من التهديد، و الترجي، و الإهانة و نحوها، و مقتضى الأصل عدم تعدد الوضع بالنسبة إليها، كما أن مقتضاه عدم تعدد المستعمل فيه أيضا، و المتيقن إنما هو الاستعمال في البعث نحو المطلوب و التحريك إليه و إيجاد الداعي له.

و كون ما ذكر لها من المعاني من دواعي الاستعمال، كما هو الشأن في كثير مما ذكر من المعاني المتعددة لجملة من الألفاظ، فلا اختلاف في الموضوع له و لا في المستعمل فيه، و إنما الاختلاف في الدواعي، و لا ريب في أنها خارجة عن كل منهما. و لا إشكال في أن أصل استعمالها في البعث و التحريك التنزيلي، مسلّم عند الكل، و مقتضى الإطلاق أن يكون الداعي إليه هو البعث الحقيقي، إلاّ أن تكون قرينة على الخلاف. و منه يعلم أن التمني، و الترجي، و الاستفهام، الواردة في كلامه تعالى مستعملة في معانيها الإنشائية بدواع شتى، منها التكلم مع الناس بما يليق بهم في كيفية المحاورة بينهم، و المستحيل إنما هو استعمالها في معانيها الحقيقية بالنسبة إليه تعالى. و أما الاستعمال في المعاني الإنشائية

ص: 62

بدواع اخرى، فلا استحالة فيه أبدا.

الجهة الثانية: الاختلاف في كون الصيغة حقيقة في مطلق الطلب

اختلفوا في أنها هل تكون حقيقة في مطلق الطلب، أو في الوجوب أو في الندب؟ و الظاهر سقوط هذا البحث من رأسه، لما تقدم من أن مفادها البعث نحو المبعوث إليه، و مقتضى الإطلاق كونه بداعي الطلب الحقيقي، فيحكم العقل حينئذ بلزوم الامتثال ما لم تكن قرينة على الترخيص.

فالوجوب حكم عقلي بعد تمامية الحجة و البيان، كما أن الندب يستفاد من القرائن الخارجية، لا من نفس الصيغة من حيث هي. نعم، يصح إضافة كل منهما إلى الصيغة بالعناية. و إن أراد من قال بأنها حقيقة في الطلب ما ذكرناه، فنعم الوفاق، و إلا فلا دليل له عليه.

و ما يقال: من أن الحاكم بالإلزام لا بد أن يكون من بيده الجزاء، و العقل بمعزل عن ذلك.

مدفوع: بأن للجزاء مرتبتين، مرتبة الاستحقاق على المخالفة، و مرتبة الفعلية، و الاولى من حكم العقل و مترتبة على إلزامه، و الأخيرة وظيفة الشارع، و تكون بيده و تحت اختياره.

الجهة الثالثة: الجملة الخبرية تكون كصيغة الامر في افادة الوجوب اذا وردت مورد البعث

قد استقرّت السيرة على أن الجمل الخبرية التي علم بورودها مورد البعث، تكون مثل صيغة الأمر في إفادة الوجوب. ما لم تدل قرينة على الخلاف، و قد استعملت في معانيها الحقيقة و هي النسبة الإخبارية، لكن بداعي البعث و التحريك لا بداعي مجرد الإخبار. و لا إشكال فيه لكفاية مثل هذه الجمل في إتمام الحجة، فيحكم العقل بلزوم الامتثال مع عدم ورود الترخيص؛ فالإلزام مطلقا - فعلا كان أو تركا - إرشاد من حكم العقل، و من فروع قاعدة دفع الضرر المحتمل، فكيف بالمقطوع؟! فيصح العقاب على الترك حينئذ عقلا و شرعا.

هذا إذا أحرز أنها وردت في مقام البعث و الإنشاء. و أما إذا شك في ذلك

ص: 63

أو علم بورودها في مقام الإخبار فقط، فلا وجه لاستفادة الوجوب منها، بل مقتضى الأصل عدمه.

الجهة الرابعة: لا تدل الصيغة لا على المرة و لا على التكرار باى دلالات الثلاث
اشارة

لا تدل الصيغة على المرة، و لا على التكرار مطابقة، و لا تضمنا، و لا التزاما بالملازمة الشرعية أو العرفية أو العقلية، إذ ليس مفادها إلاّ البعث نحو المطلوب فقط و التحريك إليه، و إيجاد الداعي للعبد و إتمام الحجة عليه، و كل ذلك على نحو اللابشرط عن كل قيد حتى عن اللابشرطية.

و كذا ليست في البين قرينة عامة مقرونة بها تدل على أحدهما.

نعم، يمكن استفادة المرة أو التكرار من القرائن الخاصة في موارد مخصوصة، و مع فقدها فمقتضى أصالة الإطلاق الاكتفاء بمجرد إتيان ذات المأمور به لتحقق الامتثال بذلك عرفا، و هو مقتضى أصالة البراءة أيضا، لأن الشك في الزائد عليه شك في أصل التكليف، و مع عدم البيان بالنسبة إليه يرجع إلى البراءة، فيتطابق مفاد الأصل اللفظي و العلمي على عدم اعتبار خصوصية زائدة على مجرد إتيان المتعلق فقط. هذا و لا بد من التعرض لامور:

التعرض الى الامور
منها: أن المرة تطلق على الفرد و الدفعة، و بينهما عموم مطلق

، لصدقهما فيما أتى بذات المأمور به، و صدق الثاني دون الأول فيما إذا أتى بأفراد منه دفعة.

و لا يخفى أن هذا البحث إنما هو في ما أمكن التعدد في متعلق الأمر، و إلا فالبحث ساقط من رأسه.

و منها: حكي عن الفصول أن هذا البحث إنما هو بالنسبة إلى الهيئة فقط

، لاتفاق الأدباء على أن المصدر المجرد عن اللام و التنوين يدل على الماهية المطلقة و الطبيعة الصرفة، و المصدر أصل المشتقات و مادة لها، فلا مورد حينئذ للنزاع بالنسبة إلى المادة.

و فيه.. أولا: ما تقدم من أنه لا وجه لكون المصدر أصلا، لأن له هيئة، و ما كان ذا هيئة لا يقع مادة لغيره. نعم، يصح أن يقع لحاظه منشأ لوضع الصيغ

ص: 64

و نظمها، و ليس هذا من المادة في شيء.

و ثانيا: أن المادة المجردة لها حكم، و المادة المتهيئة بهيئة خاصة لها حكم آخر.

و ثالثا: أن المادة و الهيئة متلازمتان، فعوارض إحداهما تنسب إلى الاخرى، لمكان الاتحاد، فلا وقع لهذا النزاع.

و منها: أنه قد يتوهم أن المراد بالمرة و التكرار في المقام خصوص الدفعة و الدفعات

، لأنه لو كان المراد الفرد و الأفراد لكان البحث من متممات البحث الآتي من أن الأمر يتعلق بالطبيعة أو الفرد، و على الثاني فهل المراد المرة أو التكرار؟ لا أن يجعل بحثا مستقلا.

و فيه: أنه يصح جعله بحثا مستقلا و لو اريد به المرة و التكرار، لأن مجرد التشابه بين المسألتين في الجملة لا يوجب جعلهما بحثا واحدا مع تحقق الاختلاف العرفي بينهما.

و منها: أنه لا إشكال في وجوب التكرار بناء على استفادته من القرائن

، كما لا إشكال في الاكتفاء بالمرة بناء على استفادة المرة، أو الإطلاق المحض، لانطباقه عليها قهرا. و هل يجوز التكرار عليهما؟ لا ريب في جوازه رجاء، للأصل.

و أما بقصد الأمر، فإن كان المأتي به علة تامة لسقوطه من جميع الجهات - خطابا، و ملاكا، و قبولا - فلا يعقل حينئذ قصده، لفرض سقوطه من كل جهة.

و أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس بالإتيان بقصده، لاحتمال بقائه، و يأتي بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الخامسة: لا تدل الصيغة بشيء من الدلالات على الفور،

أو التراخي. نعم، مقتضى المرتكزات حسن المسارعة إلى الامتثال، و حسن الفورية فيه.

ص: 65

و آيتا المسارعة و الاستباق - لو تمت دلالتهما - لا تكون إلا إرشادا إليها، فلا يستفاد منهما حكم إلزامي مولوي، كما أن مقتضى الإطلاق، و سهولة الشريعة المقدسة هو التراخي بالنسبة إلى الزمان. فصحة التراخي مقتضى التسهيل، و حسن الفورية مقتضى الارتكاز، و لا يتعين أحدهما إلا بدليل معتبر.

و من ذلك يظهر أنه لو ترك الفورية لا يرتفع حسنه، بل يظل حسنه مطلقا فورا ففورا، ما لم يأت بالمأمور به، و ما لم يسقط التكليف.

الجهة السادسة: الواجب إما متقوّم بإتيانه بقصد الأمر
اشارة

، و يعبّر عنه بالتعبدي، أو لا يكون كذلك، و هو التوصلي، و لا ريب في ثبوتهما في الشرع، كالصلاة و أداء الدين.

و قد وقع الخلاف في أن اعتبار قصد الأمر في متعلق العبادة - جزء أو شرطا - شرعي أو عقلي. فعن جمع أنه عقلي و يمتنع أن يكون شرعيا، لأنه إن كان بنفس الأمر الواحد المتعلّق بالعبادة، فهو مستلزم لتقدم ما هو متأخر طبعا، و هو محال، لأن موضوع الأمر و متعلقه متقدم طبعا على الأمر، كما في العارض و المعروض، فإذا أخذ الأمر المتأخر عن الموضوع في موضوعه، يلزم تقدم المتأخر طبعا، و هو محال.

و يصح تقريب الإشكال بنحو الدور أيضا بأن يقال: إن الأمر متوقف على متعلقه، و المفروض أن المتعلق أيضا متوقف على الأمر به، فيلزم الدور، بل يلزم المحذور في مقام الامتثال أيضا، لأن الامتثال هو الإتيان بالعمل بأجزائه و شرائطه التي منها قصد الأمر بقصد الأمر، فيكون قصد الأمر متأخرا طبعا عن الأجزاء و الشرائط، و المفروض أن منها قصد الأمر، و كيف يصح الامتثال حينئذ؟!.

و الجواب: أنه لا محذور فيه، لاختلاف المتقدم و المتأخر بالحيثية و الجهة، فما هو المتقدم إنما هو لحاظ الأمر بما هو طريق إلى الخارج، و ما هو

ص: 66

المتأخر نفس الأمر الخارجي الصادر من الآمر، و بهذا يجاب عن الدور أيضا.

و أما في مقام الامتثال، فما هو قيد للعمل إنما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى جعل الآمر، و ما هو المتأخر إنما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى الممتثل، و مع تعدد الجهة و اختلافهما، و كفاية ذلك في دفع المحذور، يرتفع أصل الإشكال من البين، فلا يكون أي محذور في أخذ قصد الأمر في المتعلّق بنفس الأمر المتعلّق به، فضلا عما إذا كان بأمرين.

و ما يقال: من الإشكال عليه بأنه إذا سقط الأمر الأول بامتثال متعلقه لا يبقى موضوع للأمر الثاني، و إلا فلا وجه للأمر الأول.

مردود: بأن الأمر الأول يسقط مع امتثاله من جهة خاصة، لا من جميع الجهات، و سقوطه المطلق يتوقف على امتثال الأمر الثاني، كما هو الشأن في جميع الأوامر المتعلقة بأجزاء المركب المتممة للجعل الأولى، و بعد إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلق، إما بالأمر الواحد أو بأمرين، يصح التمسك بالإطلاق اللفظي، لنفي القيدية عند الشك فيه، فتثبت التوصلية لا محالة.

مع أنه لو لم يمكن الإطلاق اللفظي - بناء على امتناع التقييد فيمتنع الإطلاق، لأنهما من العدم و الملكة - يمكن التمسك بالإطلاق المقامي الواقعي، لأنه بعد امتناع الإطلاق و التقييد اللحاظي اللفظي يثبت الإطلاق المقامي الواقعي لا محالة. و الملازمة بين امتناع التقييد و امتناع الإطلاق إنما هي في اللفظي منهما دون الواقعي النفس الأمري.

و لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي، فمقتضى البراءة العقلية و النقلية عدم وجوب قصد الأمر، و ليس المقام من موارد الشك في حصول الغرض حتى يجب الاحتياط، لأن وجوبه إنما هو في ما إذا علم الغرض بحدوده و قيوده و تمت عليه الحجة من الشارع، و شك المكلف في مقام الامتثال في أنه هل حصل الغرض أو لا؟ و أما إذا شك في أصل حد الغرض ثبوتا مع عدم دليل عليه

ص: 67

إثباتا - و إن كان لأجل امتناعه - فلا دليل من عقل أو نقل على وجوب الاحتياط حينئذ.

و بالجملة:

الغرض الذي علم ثبوته واقعا بحده وجب تحصيله و لو بالاحتياط، كما في أطراف العلم الإجمالي، و الشبهات البدوية قبل الفحص، لا ما إذا كان أصل ثبوته مشكوكا فيه، إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتياط حينئذ.

و بالجملة أنه تطابق الأصلي اللفظي و الحالي و الذاتي، و الأصل العملي على التوصلية عند الشك فيها و في العبادية.

أما وجوب قصد الأمر باستصحاب أصل الوجوب. فهو مردود..

أولا: بأنه محكوم بالإطلاق اللفظي - بناء على جواز أخذ قصد الأمر في المتعلّق - و بالإطلاق المقامي الحالي و الذاتي بناء على عدم الجواز.

و ثانيا: بأنه إن اريد به دخل قصد الأمر في المتعلّق، فهو مثبت.

و إن اريد به وجوب قصد الامتثال من غير دخله في المتعلّق، ففيه: أنه ليس أثرا لنفس المتيقن المستصحب، لأنه ذات الوجوب من حيث هو، و قصد الامتثال غير ذات الوجوب من حيث هو. مع أنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المشكوك عين المتيقن شرعا.

و إن أريد به حكم العقل بوجوب الاحتياط، فهو باطل، لأنه مع العلم بأصل الوجوب لا يحكم العقل بوجوب الاحتياط و تحصيل الغرض المشكوك الثبوت، فكيف يحكم بذلك لأجل الاستصحاب؟!

هذا كله إذا كان التعبد لقصد الأمر. و أما إذا كان لجلب الثواب أو للفرار من العقاب، أو لأنه تعالى أهل لأن يعبد أو غير ذلك، فامكان أخذها في المتعلّق بأمر واحد أو بأمرين مما لا ريب فيه، و لم ينكره أحد.

ص: 68

ختام فيه امور:
أحدها: تعتبر المباشرة فى العبادات، و عدم سقوطها بالمحرم

ظاهر أدلة العبادات اعتبار المباشرة فيها، إلا أن يدل دليل على الخلاف، و عليه استقرت الفتوى و السيرة أيضا. كما أن مقتضى المرتكزات عدم سقوط العباديات بالمحرّم، لأن التقرب بالمبغوض مما تأباه العقول، و أما التوصليات فلا يعتبر فيها المباشرة إلا مع الدليل على الخلاف، كما أنها تسقط بالمحرم و إن أثم، و كل ذلك من القضايا التي قياساتها معها. و تفصيل هذا الإجمال يطلب من الفقه.

ثانيها: اطلاق دليل الوجوب يقتضى كونه عينيا نفسيا تعيينيا، و مقتضى الاصل العملى

إطلاق دليل الوجوب يقتضي أن يكون عينيا نفسيا تعيينيا، لأن الكفائية، و الغيرية، و التخيرية، تحتاج إلى دليل خاص، و قرينة مخصوصة، و مع العدم فالمرجع إنما هو حكم العقل، فكما استفدنا أصل الوجوب بحكم العقل، فكذا عدم هذه الخصوصيات أيضا. و هذا مقتضى الأصل العملي أيضا، أي أصالة عدم السقوط بفعل الغير، أو في ضمن فرد آخر. يمكن أن يستدل عليه بأصالة الإطلاق أيضا، لأن استفادة جنس الوجوب من حيث هو لا وجه له، لأن أدلة الأحكام تدل على الأنواع لا الجنس من حيث هو، و استفادة التخيير بين الأنواع أيضا ممنوع، فينحصر الإطلاق في ما ذكر على فرض كون الوجوب مفاد الدليل اللفظي، فتتحد نتيجة الأصل العملي مع الأصل اللفظي. نعم في ما لو شك في الوجوب الغيري، و لم يكن وجوب ذي المقدمة فعليا، يكون حينئذ من الشك في أصل الوجوب، و المرجع البراءة، بخلاف ما إذا كان فعليا فإنه يجب الإتيان به لا محالة.

ثالثها: وقوع الامر بعد الحظر لا يكون من القرينة العامة على الاباحة بل هى تابعة للقراءة الخاصة

وقوع الأمر بعد الحظر - كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ... فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، أو بعد توهمه، كما إذا سئل عن جواز الشيء فاجيب بالأمرية - لا

ص: 69

يكون من القرينة العامة المعتبرة الدالة على الإباحة مطلقا، بل يصير اللفظ حينئذ مجملا، فيتبع القرائن الخاصة التي تدل على الإباحة تارة. و على الوجوب اخرى، و مع فقدها فالمرجع أصالة البراءة و نتيجتها الجواز، و لا يبعد جعلها حينئذ من القرائن العامة على الجواز. و كذا الكلام في النهي الواقع بعد الأمر، أو توهمه.

رابعها: ايجاب شىء على المكلف مع انتفاء شرطه قبيح عند العقلاء

إيجاب شيء على المكلف مع العلم بانتفاء شرطه قبيح عند العقلاء كافة، و كل قبيح عقلي ممتنع بالنسبة إليه تبارك و تعالى، فيكون من التكليف المحال أو بالمحال. نعم، لو كانت مصلحة خاصة تقتضي ذلك فلا إشكال فيه، لأن وجود المصلحة يرفع قبحه، بل قد يكون تركه قبيحا. و كذا لو كان إنشاء التكليف في ظرف عدم الشرط، و لكن تمكن منه حين فعلية التكليف، و لا إشكال فيه، بل هو شايع.

خامسها: فى الامر بالامر بشىء و استفادة الوجوب بالنسبة الى المامور الثانى تابعة للقرائن

من الشائع المتعارف، و عليه جرى بناء الشارع الأمر بالأمر بشيء، و لا ريب في أنه يستفاد منه الوجوب بالنسبة إلى المأمور الثاني إن دلت القرينة على أن الواسطة واسطة في الإبلاغ و الإرسال فقط، كوساطة المرسلين في إبلاغ أوامر اللّه تعالى.

و إذا لم يكن كذلك، و شك في أن الأمر من الآمر الأول صدر للإيجاب على المأمور الثاني، أو لغرض آخر، فهو من الشك في أصل الوجوب، و مقتضى الأصل فيه البراءة، و لا يبعد أن يقال: إن الظاهر كونه في مقام الإيجاب على المأمور الثاني، إلا مع القرينة على الخلاف.

سادسها: اذا ورد الامر بشىء ثم ورد أمر آخر به قبل امتثاله يكون الثانى تاكيدا للاول، و ان ورد بعد امتثاله فهو ايجاب آخر

إذا ورد الأمر بشيء ثم ورد أمر آخر به قبل امتثاله، فمقتضى المحاورات أن الثاني تأكيد للأول، و إن ورد الأمر بشيء بعد امتثاله فهو إيجاب آخر لا ربط له بالأول و إن كان مثله، إلا مع القرينة على الخلاف في الموردين.

و مع الشك في أنه من أيّهما تكون الشبهة من الأقل و الأكثر، فيجزي امتثال واحد

ص: 70

و تجرى البراءة عن الأكثر.

سابعها: لا دلالة لدليل نسخ الوجوب و لا دليل المنسوخ على الابقاء الجواز بعد النسخ و الاقوال فيه ثم ردها، ذكر ما تقتضيه الاصول العلمية و الحكيمة

لا دلالة لدليل نسخ الوجوب، و لا لدليل المنسوخ على بقاء الجواز بعد النسخ. أما بالدلالة المطابقة فمعلوم الانتفاء، و كذا الالتزام، إذ لا ملازمة عقلية و لا عرفية و لا شرعية بين دليل الناسخ أو المنسوخ و الجواز بوجه.

و قيل: إنه يدل عليه بالتضمن، لأن الوجوب عبارة عن الترخيص في الشيء مع المنع عن الترك، فإذا نسخ المنع من الترخيص يبقى الجواز بالدلالة التضمنية.

و فيه: أولا: أن مفهوم الوجوب بسيط لا أن يكون مركبا، سواء كان بحكم العقل، أم من مدلول اللفظ.

و ثانيا: على فرض التركب لا وجه لبقاء الجنس خارجا مع زوال الفصل، كما تقرر في محله، إلاّ أن يتمسك بالعرف. هذا بحسب الاستظهارات اللفظية.

و أما الاصول العملية فهي إما حكمية أو موضوعية.

و الاولى منحصرة في أصالة الإباحة، و لا مانع من جريانها.

و الثانية عبارة عن استصحاب أصل الجواز، و هو لا يجري، لما تقدم من بساطة الوجوب، فلا جواز في البين حتى يكون مجرى له. و على فرض التركب فهو من استصحاب القسم الثالث من الكلي، و يأتي بطلانه في محله.

ثامنها: متعلق الالتزام هل هو الطبيعة أو الفرد

متعلق الإلزام - فعلا كان أو تركا - لا بد أن يكون مرآة إلى الخارج، لأن التحقق الخارجي هو المراد و المطلوب لكل فرد، و الشارع لا يخالف طريقة العقلاء.

و إنما اختلفوا في أنه مع قطع النظر عن الخصوصيات، و هذا يعبّر عنه بالتعلق بالطبيعة، أو مع اعتبارها مرآة إلى الخصوصية الخارجية، و يعبّر عنه بالتعلق بالفرد.

و الحق هو الأول، و ليس المراد بالطبيعة الطبيعة من حيث هي، لأنها لا

ص: 71

تكون مورد الطلب، بل و لا لغرض من الأغراض العقلائية، و إنما هي فرض يختص بفن المنطق و الحكمة فقط. كما أنه ليس المراد بالفرد ما هو المتحقق خارجا بعد تحققه، لكونه مسقطا للطلب، فيكون طلبه من تحصيل الحاصل، و لا يصح أن يكون موردا للطلب، كما أنه ليس المقام مبنيا على ما اختلفوا في الحكمة من أصالة الوجود أو الماهية، لما تقدم من أنه لا بد في مورد الطلب اعتبار التحقق الخارجي طريقا و مرآة، و حيث أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية في هذه المسألة، فلا وجه للتطويل بأكثر من ذلك.

ص: 72

الأمر الثالث أقسام الواجب و هي سبعة:

القسم الأول: المطلق و المشروط

و هما من المفاهيم المبينة العرفية، لشيوعهما في المخاطبات - كنظائرهما - مما تقوم به المحاورات، و كل ما قيل في تعريفهما لا وجه له ما لم يرجع إلى ما هو المقبول لدى العرف.

فكل واجب إذا لوحظ وجوبه مع شيء، فإن كان مقيدا به فهو مشروط بالنسبة إليه فقط، و إلا فهو مطلق كذلك. فهما من المفاهيم الإضافية لا يخلو منهما واجب أبدا، و يصح اجتماعهما في واجب واحد من جهتين، كما هو شأن الامور الإضافية.

ثم إن لكل واجب هيئة و مادة بالضرورة، و هما متلازمان و متحدان في الوجود عقلا، فيتحدان في الإطلاق و الاشتراط أيضا في الجملة و من جهة خاصة لا مطلقا، لصحة التفكيك بين الحيثيات و الجهات، كما يأتي. فيكون إطلاق أحدهما و اشتراطه عين إطلاق الآخر و اشتراطه، بلا تفكيك بينهما من هذه الجهة في الأنظار العرفية المنزلة عليها الأدلة.

نعم، يفرّق العرف بينهما في أن قيود الوجوب غير واجب التحصيل بخلاف قيود الواجب، و هذا أمر آخر لا ربط له بالملازمة العرفية في الإطلاق

ص: 73

و الاشتراط و إن صح التفكيك بينهما عقلا، و لكنه بمعزل عن الأحكام الشرعية المنزلة على العرفيات.

و المعروف أن القيود في الواجبات المشروطة قيود للهيئة، فلا وجوب إلا بعد تحققها، فيكون الواجب أيضا كذلك لا محالة، لما ذكرنا من الملازمة بين المادة و الهيئة.

و ذهب المحقق الأنصاري قدّس سرّه إلى لزوم كون القيد قيدا للمادة مع اعترافه بأن مقتضى المحاورات أن يكون قيدا للهيئة، فالوجوب مطلق فعلي و الواجب مشروط بتحقق الشرط، و هو لديه عين الواجب المعلق عند صاحب الفصول.

و استدل على مدعاه: بأن الهيئة من المعاني الحرفية المتقومة بالغير و هي غير قابلة للإطلاق و التقييد، لكونهما من شئون المعاني المستقلة، مع أن الوضع في المعاني الحرفية و ما يلحق بها خاص، فكيف تقبل التقييد؟!

و فيه: ما عرفت من قبولها للإطلاق و التقيد بتبع متعلقاتها، و كون الوضع فيها خاصا ممنوع، و على فرضه فلا ينافي التقييد، كما في تقييد الأعلام الشخصية و غيرها من الجزئيات. مع أنه لا ثمرة لهذا النزاع أصلا إلا في وجوب بعض المقدمات قبل دخول زمان الواجب، و يأتي بيان الوجوب فيها بطريق صحيح مقبول بلا احتياج إلى ارتكاب ما هو خلاف المشهور باعترافه قدّس سرّه.

ثم إن التكاليف المجعولة لها مراتب متفاوتة، منها مرتبة لحاظ جعل القانون فقط، و منها صلاحيتها للداعوية بالنسبة إلى المكلفين، و منها الفعلية. و لا أثر للإطلاق و الاشتراط في الأولين بالنسبة إلى فعلية الوجوب لأن فعلية التكليف منحصرة بحكم العقل، و لا ربط لها بالشارع و إنما تدور مدار تحقق الشرائط بأسبابها التكوينية خارجا و عدمه، فمع التحقق يكون الوجوب فعليا عقليا، و مع عدمه لا فعلية له. فالإطلاق و الاشتراط في التكليف الفعلي يرجع إلى حكم العقل فقط، و ما هو مربوط إلى الشارع إنما هو الإطلاق و الاشتراط في

ص: 74

مرتبة جعل القانون فقط، فيصح جعل القانون المطلق أو المشروط و لو لم يكن مكلف في البين، إذ المقصود منه إنما هو إتمام الحجة و البيان، و هو يحصل بمجرد الإظهار و الإعلان، و هذه هي الفعلية التي يصح انتسابها إلى الشارع، و فعلية التكليف إنما هي من العقل فقط، و منسوبة إليه، فإشكال انفكاك المنشأ عن الإنشاء في التكاليف المشروطة، ساقط من أصله.

القسم الثاني: المعلق و المنجز
اشارة

و هذا الاصطلاح حدث من صاحب الفصول، فإنه قال: الواجب إما مطلق غير مقيد بشيء، و هو المنجّز، أو يكون نفس الوجوب مقيدا بشيء، و هو الواجب المشروط عند المشهور. أو يكون الوجوب مطلقا و الواجب مقيدا بشيء غير مقدور، و هو المعلّق. و لا فرق بين الواجب المعلّق و ما ذكره المحقق الأنصاري رحمه اللّه في الواجب المشروط، إلا أن التعليق في المعلق يكون على أمر غير مقدور، و في المشروط أعم منه.

فتكون الأقسام أربعة: فإن الهيئة و المادة إما مطلقتان، أو هما مقيدتان، أو أن التقييد للمادة، أو بالعكس.

فالأول مطلق و منجز، و الثاني مشروط على كلا الاصطلاحين، و الثالث إن كان بغير المقدور فهو معلّق، و إن كان بالأعم فهو مشروط عند الشيخ قدّس سرّه، و الأخير مشروط عند المشهور، و الكل صحيح لا إشكال فيه ثبوتا.

ثم إن إحراز كون الوجوب، أو الواجب مقيدا، لا بد و أن يكون من دليل آخر و لا يدل نفس الأمر عليه، كما أن إحراز كون القيد قيدا للمادة أو للهيئة أيضا كذلك، و إنما اختار الشيخ و صاحب الفصول قدّس سرّهما ما اختاراه لدفع الإشكال عن موارد قليلة في الفقه توهم فيها وجوب المقدمة قبل ذيها، كما يأتي.

و اشكل على المعلّق بوجوه جميعها قابلة للمناقشة:

ص: 75

الأول: ما عن المحقق الأنصاري قدّس سرّه من أنه غير معقول.

و فيه: أنه كذلك بناء على ما ذهب قدّس سرّه إليه في الواجب المشروط، حيث عرفت من أنه عين المعلّق على مصطلح صاحب الفصول، فلا يتصور قسم آخر حتى يسمى بالمعلّق، و أما على ما ذهب إليه المشهور في الواجب المشروط فهو معقول ثبوتا بلا إشكال.

الثاني: أنه محال لاستلزامه انفكاك المراد عن الإرادة، و هو كانفكاك المعلول عن العلة التامة، و لا ريب في استحالته.

و فيه: أن المراد في إرادة التكاليف ليس إلاّ جعل القانون و وضع التكليف على عهدة المكلف، و إتمام الحجة، و لا ريب في عدم انفكاكه عن بيان التكاليف - مطلقا كان أو مشروطا، معلقا أو غيره - لأن بمجرد جعل القانون - بأي وجه كان - يحصل ذلك كله في الواقع، فلا يعقل الانفكاك حينئذ.

و أما ما أجاب به صاحب الكفاية قدّس سرّه من صحة انفكاك المراد عن الإرادة و أطال فيه الكلام. فإن أراد بها الشوق المؤكد، فهو حق لا ريب فيه، إذ كم من مشتاق ينفك عن الشوق وجدانا. و إن أراد بها الاختيار المستلزم لتحقق المختار، فلا وجه له من عقل أو نقل.

الثالث: أنه لا قدرة للمكلف على الامتثال حين صدور الخطاب، لفرض تعلقه على غير المقدور.

و فيه: أن المعتبر من القدرة في التكاليف مطلقا القدرة حين الامتثال، لا في حالة اخرى، كما هو أوضح من أن يخفى.

الرابع: ما تقدم من الملازمة بين الهيئة و المادة في الأنظار العرفية، في أن تقييد أحدهما عين تقييد الآخر و إن أمكن التفكيك بينهما دقة. و دفع هذا الإشكال سهل، لأنه ربما يكون نظر صاحب الفصول قدّس سرّه إلى الدقة العقلية، لا الأنظار العرفية. فلا محذور في الواجب المعلق لا ثبوتا، و لا إثباتا.

ص: 76

و لكن لا يخفى أنه لا موجب للقول به، بل هو من التطويل بلا طائل، لأنه لدفع الإشكال عما ورد في موارد من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، كغسل الجنب أو المستحاضة قبل الفجر في صوم شهر رمضان، و تعلّم أحكام المسائل الابتلائية قبل الابتلاء بها، و المسير إلى الحج قبل زمانه. مع أن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها، فتكون تلك الموارد من تقدم المعلول على العلة، و هو محال.

و لدفع هذه الغائلة تشتّت الأقوال و اختلفت المسالك، فاختار كل مهربا، فتعلّق بعضهم بالواجب المعلق، و آخر بما هو خلاف المشهور في الواجب المشروط.

فذهب صاحب الفصول قدّس سرّه إلى أن وجوب ذي المقدمة في تلك الموارد فعلي و الواجب استقبالي من غير أن يلزم المحذور. و لكنه تبعيد للمسافة بلا ملزم في البين.

و ذهب شيخنا الأنصاري إلى أن القيد قيد للمادة، فالوجوب مطلق في الواجب المشروط و فعلي مع اعترافه بكونه خلاف القواعد العربية.

و ذهب شيخ مشايخنا في الكفاية إلى جعل الواجب في تلك الموارد فعليا مشروطا بالشرط المتأخر، و هو مجيء الزمان الخاص.

و هو مردود أيضا، لكونه راجعا إلى الواجب المعلّق في الواقع، مضافا إلى كونه خلاف المنساق من القيود و الشروط التي يكون المنساق منها في المحاورات العربية خصوص المقارنة دون غيرها من السابقة أو اللاحقة.

و ذهب بعض إلى القول بأن وجوب التعلّم نفسي، لا أن يكون غيريا حتى يلزم المحذور.

و فيه: أنه للمعرفة ملاك نفسي أبدا، بل هي طريقية محضة. و كل هذه الامور مبنية على جعل وجوب ذي المقدمة علة تامة منحصرة لوجوب المقدمة،

ص: 77

كالعلل التكوينية. و هذا من مجرد الدعوى بلا دليل عليه، بل هو خلط بين الاعتباريات و التكوينيات، مع أنه لا بد من مراعاة الفرق بينهما في الجملة.

فالحق في الجواب أن يقال:

أولا: أن وجوب المقدمة كوجوب ذيها في الشرعيات و العرفيات مطلقا من الاعتبارات الصحيحة العقلائية، حيث تدور مدار الجعل الاعتباري و عدم استنكار ذلك لديهم، فكما أن الوجوب في المقدمات الداخلية وجوب واحد انبساطي على جميع الأجزاء مع ترتبها، و تقدم بعضها على بعضها، و يتصف الجميع بوجوب واحد انبساطي على الجميع مع صحة اعتبار المقدّمية فيها، فيصح أن يسمّى هذا الوجوب بالمقدّمي من جهة و بالنفسي من جهة اخرى، فليكن في المقدمات الخارجية أيضا كذلك، فمنشأ الوجوب إنما هو من ذي المقدمة و منه الانبساط على المقدمات، سواء كانت مقارنة أم متأخرة أم متقدمة على ذيها، و لا مانع من عقل أو نقل، لأنه اعتبار - و أخف الأشياء مئونة إنما هي الاعتباريات. فيصح بكل نحو تطرّق إليه الاعتبار، و ليس ذلك من تقدم المعلول على العلة، أو تأخره عنها زمانا لفرض انبساط العلة على المعلول و تقارنها معه بجميع أجزائه و جزئياته، و التقدم و التأخر الزماني لا ينافي التقارن الاعتباري، و هو يكفي في دفع الغائلة.

إن قيل: لا وجه للوجوب الانبساطي بالنسبة إلى المقدمات الخارجية مطلقا، لأنه إنما يكون فيما لوحظ فيه ملاك النفسية في الجملة، لا في ما إذا تمحّض ملاك الوجوب في إيجاب ذي المقدمة، كما في المقدمات الخارجية، لأن ملاك محبوبيتها ممحّضة في ذلك.

يقال: المناط كله في إيجاب المقدمة، التمكن من ذيها بأي نحو كان لها دخل فيه، سواء كان ذلك من جهة كونها دخيلة في وجوب ذيها أم من جهة اخرى.

ص: 78

و ثانيا: أن وجوب ذي المقدمة علة غائية لوجوب المقدمة، لا أن يكون علة فاعلية حتى يلزم المحذور، فلا تجب المقدمة إلا لأجل وجوب ذيها في وقته، و قد ثبت في محله أن الغاية متقدمة في العلم و متأخرة في الوجود و العمل، و قد جرت السيرة على الاهتمام بإتيان امور لأجل غايات تترتب عليها في أوقات خاصة، فللغاية اعتبار صحيح فعلي، تترتب على فعلها من جهة الاعتبار آثار عرفية صحيحة، بل شرعية، كصحة اعتبار وجوبها فعلا. و ليس ذلك من القول بالوجوب النفسي للمقدمة، لأنه في ما كان الملاك فيه غير وجوب شيء آخر، و لا ملاك للمقدمة في المقام و غيره إلاّ وجوب ذي المقدمة و التمكن من إتيانه. فإن أراد من يقول بالوجوب النفسي التهيئي ذلك فلا مشاحة في الاصطلاح.

و ما يقال: من أن وجوب الشيء لأجل غايته عقلي و الكلام في الوجوب الشرعي المولوي.

مدفوع: بأن المقام من موارد الملازمة قطعا للعلم بالملاك مع استقرار السيرة العقلائية على الوجوب التي يستكشف منها الوجوب الشرعي، كما في سائر الموارد.

و ثالثا: أنه يمكن إثبات الوجوب في هذه الموارد من باب حكم العقل بقبح تفويت التكليف في ظرفه مطلقا، فالوجوب عقلي من هذه الجهة و يتبعه حكم الشرع أيضا، و لا نحتاج إلى إثبات أن وجوبها تبع لواجب آخر أو أن الواجب الآخر غاية له، لفرض كون الوجوب حينئذ عقليا و شرعيا مستقلا، فيكون الوجوب في جميع هذه الموارد كوجوب صلاة الظهر من حيث أنه وجوب مستقل و فيه ملاك المقدمية أيضا.

ص: 79

فوائد:

الاولى: كل واجب مشروط يصير مطلقا بعد حصول شرطه من جهة حصول هذا الشرط فقط، و إن كان مشروطا من جهات اخرى، لما تقدّم من أن الإطلاق و الاشتراط من الامور الإضافية، بلا فرق فيه بين كون الشرط شرطا للوجوب، أو للواجب.

الثانية: لو شك في الاشتراط و عدمه، فمقتضى الأصل و الإطلاق عدمه.

الثالثة: لو كان الواجب مشروطا و شك في حصول الشرط و عدمه فمقتضى الأصل و إن كان عدم الحصول، و لكن يظهر عن جمع من الفقهاء في جملة من الموارد لزوم التفحص.

الرابعة: إذا كان شرط في البين متصلا بالكلام أو منفصلا عنه و شك في أنه يجب تحصيله أو لا، فمقتضى أصالة البراءة عدم الوجوب، فلا يكون أصل التكليف المشروط به منجزا حينئذ إلا بعد حصوله.

و قد يقال: إن إطلاق الهيئة شمولي يشمل صورة الشرط و عدمه، فهو إطلاق قوي لا يزول إلاّ بما هو أقوى منه، و إطلاق المادة بدلي لا يدل إلا على إتيان صرف وجودها في الجملة، فهو إطلاق ضعيف، فيرد القيد على الضعيف و يبقى القوي على حاله.

و فيه: مع أنه من مجرد الاستحسان الذي يجل الأحكام الإلهية أن تبتنى عليه، أنه لا وجه لكون الأول قويا و الآخر ضعيفا بعد كون كل منهما بمقدمات الحكمة. نعم، لو كان الأول بالوضع و الآخر بمقدمات الحكمة لكان له وجه، و لكنه ليس كذلك، مضافا إلى ما تقدم من التلازم العرفي بينهما.

ص: 80

القسم الثالث: النفسي و الغيري

و الأول ما امر به لا لأجل تكليف آخر، بخلاف الثاني فإنه ما كان أمره لأجل التمكن من تكليف آخر، و يكون ذلك التكليف كالعلة الغائية لإيجابه، سواء كان الأمر به مستقلا أم لا، و سواء كان متقدما عليه أم متأخرا أم مقارنا، و سواء كانت فيه مصلحة نفسية أو لم تكن.

ثم إنه إن علم - و لو بالقرائن - خصوص النفسية أو الغيرية فهو، و إلا فمقتضى أصالة الإطلاق عدم كون الإيجاب و البعث عن داع غيريّ؛ بل لنفسه فيثبت الوجوب النفسي بالإطلاق، هذا بحسب الأدلة اللفظية.

و أما بحسب الاصول العملية، فإن علم بعدم وجوب ذي المقدمة، أو لم يعلم به، فمقتضى أصالة البراءة عدم فعلية الوجوب مطلقا، و إن علم به و قلنا بأن العلم بجنس الوجوب يجزي في تنجزه، كما هو مقتضى مرتكزات المتشرعة وجب الإتيان به. و إلا فلا لأصالة البراءة، و لكن لا تصل النوبة إليها مع وجود الإطلاق في البين.

ثم إنه لا ريب في ترتب الثواب على امتثال الأوامر النفسية مع الشرائط المعتبرة. و أما الأوامر الغيرية فالمعروف أنه لا ثواب لامتثالها، لعدم المصلحة فيها، بل لا مصلحة لإيجابها إلا إتيان غاياتها.

و لكن يرد عليه.. أولا: أنها أعم من ذلك، كما تقدم.

و ثانيا: مقتضى إطلاق قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها و قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، و قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ و غيرها مما هو كثير كتابا و سنة، ترتب الثواب على امتثالها أيضا بعد صدق الحسنة و الخير و العمل الصالح عليها.

ص: 81

و لا وجه للقول بأن ذلك كله بواسطة ذي المقدمة لا في حد نفسها، فلا وجه لانطباق أي عنوان عليها. لأنه يمكن أن تكون الإضافة إلى ذي المقدمة موجبة لتعنونها بعنوان الحسن، و سببا لعروض ذلك عليها، سواء تحقق ذو المقدمة في الخارج أم لم يتحقق. و يشهد له ما ورد في السعي في قضاء حاجة المؤمن: أن من سعى فيها فله كذا من الثواب، قضيت الحاجة أو لا. و ما ورد: من أن نية المؤمن خير من عمله. و تقتضيه كثرة تفضل اللّه تعالى على عباده و سعة رحمته.

و دعوى اختصاص مثل هذه الإطلاقات بخصوص الواجبات النفسية، بلا شاهد بل هو على خلافهما، مع إمكان القول بانبساط الثواب من ذي المقدمة إلى مقدماته، حصل ذو المقدمة أم لا، مضافا إلى صدق الانقياد الذي هو من موجبات الثواب عند العقلاء مطلقا.

ثم إنهم قالوا بانحصار الثواب في ما إذا قصد الأمر و القربة، فلا ثواب في غيره. و هو أيضا بلا شاهد، إن لم يكن على خلافه شاهد، كما لا يخفى على من راجع الأحاديث الشريفة، بل الثواب يدور مدار كون العمل محبوبا لدى اللّه عزّ و جلّ بأي مرتبة من مراتب الحب و لو كان الحب مقدميا انقياديا، لأن لحبه تعالى مراتب متفاوتة، كما أن لثوابه أيضا كذلك، بل ربما يثيب اللّه تعالى على امور غير اختيارية، فسقوط الأمر في العبادات و إن كان متوقفا على قصد الأمر و لكن الإثابة على المحبوبات لدى اللّه تعالى أعم من ذلك. كما أن فساد العباديات بالرياء لا ربط له بالمقام.

و الحاصل: أنه لا مانع ثبوتا من الثواب على المقدمات، لكونها محبوبة للّه تعالى في الجملة، و لا يكون الثواب متقوّما بقصد القربة، هذا إذا كان المراد بالثواب الجزاء المجعول الشرعي، و أما إذا كان المراد به استحقاق المدح الذي هو أمر عقلي و لا ربط له بالشرع - فلا ريب في تحققه أيضا - لانطباق عنوان

ص: 82

الانقياد على إتيانه، و لا إشكال في أن كل انقياد ممدوح عند العقل و العقلاء. فلا وجه للإشكال على الطهارة الحدثية بأن مطلوبيتها غيرية، مع ما ورد من ترتب الثواب عليها لما تقدم، مضافا إلى أنه يستفاد من جملة من الأخبار كونها مطلوبة نفسيا، مع أنه يمكن انبساط ثواب الغايات عليها، فيصح قصد أمرها النفسي، كما يصح قصد أمرها الغيري.

و ما يقال: من أنه يلزم حينئذ اجتماع الندب و الوجوب في واحد، و هو من اجتماع الضدين.

مدفوع: بأن الاجتماع المحال ما إذا كان الضدان من الموجودات الخارجية العينية، لا من الاعتباريات، و الأحكام من الأخيرة دون الاولى، مع أن الاجتماع ملاكي، لا أن يكون فعليا، و لو كان فعليا لأمكن الاختلاف بالحيثية.

و ما يقال: من أن حيثية المقدّمية تعليلية و لا تفيد في دفع المحذور، لأن ما يفيد فيه إنما هو الحيثية التقييدية فقط.

مردود: بإمكان فرضها في المقام تقييدية لدفع المحذور.

ثم إنه يمكن القول بصحة ترتب العقاب على ترك الواجب الغيري لانطباق عنوان هتك المولى و الاستخفاف به و مخالفته عليه عرفا، و ذلك مما يوجب الاستحقاق، مع أن ترك العلة مستلزم لترك المعلول.

نعم، هناك عقاب واحد متبسط على ترك المعلول و علته بجميع أجزائها، لا أن يكون العقاب متعددا، بخلاف الأجر و الثواب فإنه يمكن التعدد فيه كما لا يخفى.

القسم الرابع: التعييني و التخييري

و الأول ما لا يكون له عدل في عرضه بخلاف الثاني. و لا ريب في و وقوعهما عرفا و شرعا، و إنما الكلام في تصوير الثاني ثبوتا.

ص: 83

فقيل: إنه ما تعلّقت فيه الإرادة بالمبهم المردد.

و اشكل عليه: بأنه لا تحقق للمبهم حتى تتعلّق به الإرادة.

و يمكن المناقشة فيه بأن المبهم إن كان مبهما من كل جهة فهو حق، و أما إذا لم يكن كذلك، بل كان بين طرفين أو أطراف محصورة، فلا إشكال فيه، لتعينه في الجملة و هو يكفي لتعلّق الإرادة.

و قيل: إنه ما تعلّقت الإرادة فيه بالجامع، و اشكل عليه بأنه من التخيير العقلي حينئذ، و الكلام في التخيير الشرعي.

و فيه: أن التخيير العقلي ما اخذ فيه الجامع القريب في ظاهر الخطاب دون ما إذا انتزع الجامع الاعتباري من الأطراف، و قد ذكر ذلك الجامع العنواني الانتزاعي في ظاهر الدليل، كما في قوله تعالى: فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ.. الآية، و كما في بعض الأخبار أيضا ذكر الكفارة أولا، ثم بيان أفرادها.

و قيل: إن الغرض الواحد مترتب على كل واحد من الأطراف.

و اشكل عليه: بأنه مستلزم لصدور الواحد عن الكثير، و هو ممنوع.

و فيه: أنه على فرض صحة المنع فهو في الواحد البسيط الحقيقي، لا الواحد الاعتباري، و المقام من الأخير دون الأول.

و قيل: بأن الواجب كل واحد من الأطراف في ظرف عدم الآخر، و لا يلزم تحصيل الآخر مع حصول الأول.

و اشكل عليه: بأنه يلزم عدم الوجوب في صورة إتيان تمام الأطراف، و تعدد العقاب عند ترك جميعها.

و يرد عليه: بأن المراد انطباق الوجوب على أول وجود طرف من الأطراف، فلا وجوب لغيره عند الاجتماع، كما أنه لا وجه لتعدد العقاب عند ترك الجميع، فإنه لا تكليف إلا بالواحد في الواقع. فلا محذور في جميع تلك الوجوه المتصورة في الواجب التخييري ثبوتا و لا إثباتا.

ثم إن التخيير إما بين المتباينين، أو الأقل و الأكثر.

ص: 84

و الأول مسلّم عند الكل، و واقع في الشرعيات و العرفيات، و لكن أشكل على الأخير تارة: بأن الأكثر إما لا مصلحة فيه، أو تكون مصلحته عين مصلحة الأقل، أو متباين معه. و في الأولين لا وجه لإيجابه، و الأخير من المتباينين لا الأقل و الأكثر، فلا وجه لتصويره فضلا عن وقوعه.

و اخرى: بأنه مع اشتمال الأكثر على الأقل ينطبق الوجوب على الأقل لا محالة، فلا يبقى مورد للتكليف به.

و يجاب عن الأول: بأن الأكثر مشتمل على سنخ مصلحة الأقل زائدة عليها لازمة التحصيل مع عدم الاقتصار على الأقل.

و عن الثاني: بأن الأقل يلحظ حينئذ مستقلا و بشرط لا، بلا فرق بين ما إذا تخلل العدم بين الأقل و الأكثر و عدمه.

القسم الخامس: العيني و الكفائي

عرّف الأول بأن له امتثالات متعددة حسب تعدد المكلفين، و يتعدد الثواب و العقاب بتعدد المطيعين و العاصين، و يتحقق فيه امتثال بعض و مخالفة آخرين.

و ظاهرهم التسالم على ثبوت الأولين في الواجب الكفائي أيضا بخلاف الأخير، فإنه بامتثال البعض يسقط عن الآخرين، و هذا الفرق من ناحية المتعلّق، و إلا فالوجوب فيهما على حد سواء.

و أما ما قيل: من أن الواجب الكفائي هو الواجب التخييري، إلا أن التخيير في الأخير في المكلّف به، و في الأول في المكلّف.

فهو مضافا إلى أنه خلاف ظواهر أدلة الواجبات الكفائية، مناف لما تسالموا عليه من عدم تعدد العقاب لو ترك تمام الأطراف في الواجب التخييري، و تعدده في الواجب الكفائي لو اتفق الكل على تركه، إلا أن يراد به التشبيه في الجملة لا من كل جهة.

ص: 85

إن قيل: المصلحة في الواجب الكفائي إما واحدة، أو متعددة، لا وجه للأخير، و على الأول لا وجه لتعدد الثواب و العقاب.

يقال: أما تعدد العقاب فلتحقق الاستخفاف بأمر المولى من كل واحد.

و أما تعدد الثواب فيمكن القول بتعدد الأمر اهتماما و احتفاظا للمصلحة الواحدة، و حينئذ مضافا إلى تحقق الانقياد يمكن تحقق الامتثال أيضا من حيث تعدد الأمر الانحلالي الاحتفاظي.

و لا وجه للتطويل بأكثر من ذلك بعد كونهما من المبينات عند متعارف الناس، و بعد انتفاء الثمرة العملية و العلمية في هذا البحث.

القسم السادس: الموسّع و المضيّق

و لا ريب في كون الزمان ظرفا للواجب و غيره من أفعال المكلّف تكوينا، فإن كان دخيلا في الواجب شرعا أيضا يسمى موقتا، و إلا فغير موقّت.

و الأوّل إما مضيق، أو موسع. و الموسع إما فوري، أو لا، و الأخير له أفراد طولية و عرضية. و لا إشكال في وقوع الجميع.

ثم إن كان التقييد بالوقت على نحو وحدة المطلوب فلا يدل على ثبوت الواجب بعد الوقت، فلا بد أن يكون القضاء بأمر جديد. و إن كان على نحو تعدد المطلوب فيكون الأمر باقيا بعد الوقت أيضا. و كذا لو شك في أنه من أيهما، لأصالة الإطلاق في دليل المقيد. و المتفاهم من الموقتات عرفا هو الثاني إلا مع الدليل على الخلاف، فيكفي الأمر الأول للقضاء خصوصا في مثل الصلاة - التي ثبت كثرة اهتمام الشارع بها - بحيث يقطع بأن التوقيت من باب تعدد المطلوب، هذا بحسب الأصل اللفظي.

و أما بحسب الأصل العملي، فلا إشكال في أن حدوث ذات الوجوب معلوم، و تقييده بالوقت بحيث ينتفي بانتفائه مشكوك، فيستصحب أصل الوجوب.

ص: 86

و دعوى: أن المتيقن إنما هو الوجوب المقيد بالوقت، و هو معلوم الارتفاع بعد الوقت، و الشك إنما هو في حدوث وجوب آخر، فيكون من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي الذي ثبت بطلان الاستصحاب فيه.

مردودة: بأن المستصحب هو ذات التكليف من حيث هو، لأن المفروض الشك في أن التوقيت كان من باب وحدة المطلوب أو تعدده، فلا محذور في الاستصحاب. نعم، لو ثبت أن التوقيت كان من باب وحدة المطلوب فهو من القسم الثالث بلا إشكال.

و يمكن التمسك بأصالة البراءة أيضا، لأن التقييد بلحاظ بعض مراتب المطلوب معلوم يقينا. و أما بلحاظ تمام مراتبه أو كون القيد مقوما لأصل المطلوبية فهو مشكوك، فيرجع فيه إلى الأصل فيبقى ذات الوجوب بعد الوقت أيضا.

ثم إنه إذا ثبت القضاء و شك بعد الوقت في الإتيان بالمأمور به في الوقت و عدمه، فإن كان في البين دليل على عدم الاعتناء بالشك - كما ورد في الصلاة - فلا إشكال فيه. و إلا فلا يصح التمسك لوجوبه بإطلاق الدليل، أما بناء على عدم تكفّله للقضاء فهو معلوم. و أما بناء عليه فلأنه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه. و يصح التمسك بأصالة عدم الإتيان، سواء كان موضوع القضاء مطلق عدم الإتيان، أم الفوت لأنه عبارة اخرى عن عدم الإتيان عرفا، فالترك و الفوت و عدم الإتيان مساوق كل واحد مع الآخر عرفا، و إن أمكن الفرق بينهما بالدقة العقلية، و لكنها ليست مما تدور عليها الأحكام الشرعية.

القسم السابع: الأصلي و التبعي

و الأصلي ما أنشأ عن إرادة استقلالية، و التبعي ما أنشأ عن إرادة تبعية، و لعل هذا هو مراد من عرّفهما: بالتفصيلية و الإجمالية. و عند الشك فيهما تجري أصالة عدم الاستقلالية و عدم التبعية، و تسقطان بالمعارضة و يصح التعريف

ص: 87

سلبيا أيضا، بأن يقال: الأصلي ما لم يكن عن إرادة تبعية، و التبعي ما لم يكن عن إرادة استقلالية، و لا يجري الأصل حينئذ، لكونه مثبتا.

و يمكن تعريف الأول سلبيا و الأخير إيجابيا، لأن شرح اللفظ خفيف المئونة يصح بكل وجه أمكن، و عند الشك تجري أصالة عدم الحدوث عن إرادة تبعية، فتنتفي التبعية و تثبت الأصلية، و لا تعارض أصالة عدم الأصلية لفرض أن الأصلي عدمي، و تكون أصالة عدم الحدوث عن إرادة تبعية مفادا مطابقيا للأصلية، كما أنه يمكن العكس بجعل الأول إيجابيا و الأخير سلبيا، فيجري الأصل في الأصلي و يكون مفادا مطابقيا للتبعي، و كل هذه الوجوه ممكنة ثبوتا، و لا يبعد مساعدة العرف على الثالث.

و مع عدم التعيين لا يجري الأصل لعدم إحراز الموضوع، فتصل النوبة إلى الأصل الحكمي و هو أصالة الاشتغال مع فعلية خطاب المتبوع، و البراءة مع عدمها. هذا كله في الاحتمالات الثبوتية.

و أما في مقام الإثبات، فقيل: إن الواجب إن كان مفاد الدلالة الاستقلالية المعتبرة و مقصودا مستقلا بالإفادة فأصلي و إلا فتبعي، و هو من مجرد الدعوى و لا شاهد عليها من عقل أو نقل، إذ رب واجب تبعي يستفاد من الدلالة الاستقلالية، و رب واجب أصلي يستفاد من غير الدلالات الاستقلالية، كالمفاهيم و نحوها. و يمكن أن يكون كل من الواجب النفسي و الغيري أصليا و تبعيا في مقام الإثبات كما لا يخفى. ثم إن الواجب النفسي ينطبق على الأصلي غالبا، و الغيري على التبعي كذلك.

ص: 88

القسم الثاني: النواهي و يبحث فيه عن أمرين:

الأمر الأول: تحقيق الكلام فى المراد من النهى

لا ريب في تحقق الكراهة النفسانية عند النهي عن الشيء، كتحقق الرغبة إليه عند الأمر به، و لكن هل أن المبرز للكراهة النفسانية طلب الترك، أو طلب كفّ المكلف نفسه عن الشيء، أو ردع المكلف و زجره و إيقافه، كما أن الأمر هو تحريضه و حمله عليه؟

و الحق هو الأخير، لأن الزجر عن المكروه إما خارجي، أو اعتباري، و الأول إما حبس أو ضرب أو نحو ذلك، و يعبّر عن الثاني بالنهي في متعارف الناس، و الأدلة الشرعية منزلة عليه بلا التباس، و يمكن إرجاع الأولين إليه أيضا، لأن من اللوازم العرفية للردع و الإيقاف الاعتباري، طلب الترك و طلب كف النفس.

و ما يتوهم: من أن الطلب وجودي و الترك عدمي، فلا يصح تعلّقه به.

مردود: بأن الترك ليس من العدم المطلق، بل هو من المضاف الذي يصح تعلق الطلب به، بل هو عبارة اخرى عن الكف عرفا، و إن كان بينهما فرق دقة.

ثم إن النهي متعلق بالطبيعة، كالأوامر، و من اللوازم العرفية لتعلّق النهي بالطبيعة الفورية و الاستمرار بالنسبة إلى الأفراد الدفعية و التدريجية، لأن معنى الردع عن الطبيعة إعدامها بالمرة، فتكون الفورية و الاستمرار من المداليل

ص: 89

السياقية للنهي، بخلاف الأمر فإنه يدل على إيجاد الطبيعة و هو يتحقق بصرف الوجود، و هو أعم من الفورية و الاستمرار، فلا بد في إثباتهما له من إقامة دليل من الخارج. فالفارق بينهما عرفي، فلا وجه لدعوى أنه إن اخذت الطبيعة مهملة فلا فرق بينهما، و كذا إن اخذت بعنوان السريان، إذ العرف شاهد على الفرق بينهما، كما هو معلوم.

الأمر الثاني: اجتماع الأمر و النهي في الواحد حكما

اشارة

يصح تقرير هذا المبحث فقهيا، بأن يقال: الصلاة في المحل المغصوب هل تصح أو لا؟ و تقريره اصوليا، بأن يقال: إن تعدد العنوان في الواحد هل ينفع في دفع محذور التضاد بين الأمر و النهي أو لا؟ و يمكن أن يكون من المبادئ الأحكامية إن كان البحث في نفس الأمر و النهي من حيث حالاتهما الفردية و الاجتماعية. و يمكن تقريره كلاميا إن كان البحث في أنه هل يصح من الحكيم تعالى الأمر بشيء واحد و النهي عنه أو لا؟ ففيه ملاك البحث عن جميع ذلك.

و لا بد من بيان امور:
أحدها: الفرق بين هذا البحث و بحث النهى فى العبادات

الفرق بين هذا البحث و ما يأتي من بحث النهي في العبادات عرفي، لاختلاف البحثين عند العرف و أهل المحاورة. و ملاكي، لأن ملاك البحث في المقام هو أن تعدد العنوان في الواحد هل يكفي في رفع محذور التضاد بين الأمر و النهي المتعلقين به؟ و ملاك بحث النهي عن العبادة أنه لا يصح التقرب إلى المولى بما هو مبغوض لديه مع اختلافهما موردا أيضا، لأن بين دليل الأمر و النهي في المقام عموم من وجه، مثل: صلّ، و لا تغصب، و في النهي في العبادة عموم مطلق مثل: صلّ و لا تصلّ في الحرير، فلا ربط لأحد البحثين بالآخر موردا و ملاكا و عرفا. و في اجتماع الأمر و النهي ليس من ظاهر دليل النهي اشارة إلى المأمور به أبدا. نعم مورد النهي قد يكون شرطا للمأمور به، بخلاف

ص: 90

النهي في العبادة فإن النهي في ظاهر الدليل تعلّق بقيد المأموريّة.

و هناك مسألة اخرى لا بد أن لا تشتبه بالمقام أيضا و هي التصادق الموردي، بأن تعلّق الأمر بشيء و تعلّق النهي بشيء آخر لا ربط له بالمأمور به أبدا، لكن المكلف جمعهما باختياره في مورد واحد، مثل، صلّ، و لا تنظر إلى الأجنبية، أو لا تسمع الغناء. فصلّى المكلف في مكان مع النظر إلى الأجنبية، أو استمع إلى الغناء، أو هما معا.

فاجتماع الأمر و النهي في العبادة إنما يستفاد الفرق بينهما من ظاهر الدليل، فإن كان ظاهره (لا تصل في المغصوب) مثلا فهو من النهي في العبادة، و إن كان ظاهره (لا تغصب) فهو من الاجتماع.

ثانيها: النزاع فى المقام صغروى لاتفاقهم على ان تعدد الوجه و العنوان يكفى فى رفع التناقض

اتفق العلماء على أنه لو كان تعدد الوجه و العنوان في الواحد كافيا في رفع محذور التضاد يصح الاجتماع، كما اتفقوا على عدم الصحة مع عدم الكفاية، فالنزاع في المقام صغروي بين الأعلام لا أن يكون كبرويا. كما لا نزاع عندهم أن الجهة التقييدية توجب التعدد، و الجهة التعليلية لا توجبه.

ثالثها: المراد من الواحد فى عنوان البحث

المراد بالواحد في عنوان البحث هو الواحد من حيث الوجود، بأن يكون الذات الواحد المعنون بعنوانين موجودا بوجود واحد، سواء كان الذات المعنون بعنوانين جنسا أم نوعا أم غيرهما، فيصح البحث في أن اجتماع الأمر و النهي في الموجود الواحد من اجتماع الضدين، أو أن تعنون الموجود الواحد بعنوانين يوجب رفع التضاد. و ليس المراد الواحد من حيث المفهوم و الجنس و إن تعدد الوجود كالسجود - كقوله: اسجد للّه، و لا تسجد لغيره تعالى - فإن السجود له تعالى و لغيره متحدان في المفهوم و مختلفان في الوجود، و لا ريب في اجتماعهما في مفهوم السجدة و جنسها و إن لم يمكن جمعهما في الوجود، لأن السجود إما للّه تعالى أو لغيره.

ثم إن المراد بالعنوانين في المقام كل ما يصح أن يرتفع به محذور اجتماع

ص: 91

الضدين، فيشمل مطلق تعدد الإضافة و الحيثية القابلة للتعدد - و لو اعتبارا -.

رابعها: شمول عنوان البحث لجميع أقسام الاوامر و النواهى، و عدم امكان تصوير النهى الكفائى و التخييرى

يشمل عنوان البحث جميع أقسام الأوامر نفسيا كان، أو غيريا، كفائيا، أو عينيا، أو تخييريا. و كذا النهى يشمل جميع أقسامه من النفسي و الغيري.

و الظاهر أنه لا وقوع للنهي الكفائي، بل و لا النهي التخييري في الشرع، كما أنه يشمل القول بأن متعلّق الأحكام الطبائع، أو القول بأن متعلّقها الأفراد أيضا، أما الأول فواضح، و أما الثاني فلأنه ليس المراد بالفرد المشخص الخارجي من كل جهة، بل المراد لحاظه في الجملة، فيشمل ما كان قابلا لعروض عناوين متعددة أيضا.

خامسها: اعتبار جمع قيد المندوحة، و عن آخرين عدم اعتبار، الجمع بين الكلمات

صريح جمع اعتبار قيد المندوحة، و ظاهر آخرين عدم اعتباره.

و يمكن الجمع بين الكلمات بأن من قال بالاعتبار جعل مورد النزاع مرتبة فعلية التكليف و امتثاله؛ لأنه مع عدم المندوحة يكون المكلف مضطرا إلى ارتكاب الحرام، فكيف يعقل فعلية النهي حينئذ بالنسبة إليه حتى يتحقق موضوع اجتماع الأمر و النهي. و من قال بعدم الاعتبار جعل مورده مرتبة أصل التشريع و الجعل، و يصح ذلك مع عدم المكلف أصلا فضلا عن عدم المندوحة. و حيث أن عمدة نظر الاصولي إلى مرتبة فعلية التكليف و تنجزه بالنسبة إلى المكلف فلا بد من اعتباره.

سادسها: المشهور أن المقام من موارد التزاحم لا التعارض، ادلة المشهور
اشارة

المشهور أن المقام من موارد التزاحم، فلا بد من وجود الملاك في كل منهما ثبوتا و تمامية الحجة عليهما إثباتا، لا التعارض الذي لا ملاك فيه إلا لأحدهما و إن اجتمعت شرائط الحجية في الدليلين إثباتا، و لذلك يقع التكاذب بينهما قهرا، بخلاف التزاحم الذي لا تكاذب فيه أصلا، و إنما المحذور عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما فعلا.

و يدل على المشهور امور:

ص: 92

منها: التسالم على أن مسألة اجتماع الأمر و النهي إنما هي في ما إذا كان بين الدليلين عموم من وجه، و ذلك لا يتم إلا مع وجود الملاك في كل منهما.

و منها: قولهم بصحة الصلاة في المكان المغصوب مع العذر من نسيان أو جهل أو نحوهما مع ذهابهم إلى الامتناع و تغليب جانب النهي، فلو لم يكن الملاك موجودا واقعا لما كان وجه للصحة مع العذر.

و منها: اعتبار قيد المندوحة، فيظهر منه أنّ البحث في قدرة المكلف فقط فلا بد من كون الملاك تاما فيهما، و الحجة على كل من الحكمين تامة أيضا، و لو كان من التعارض لا وجه لهذا القيد أصلا.

و لو شك في أنه من التزاحم أو التعارض فمقتضى إطلاق كل من الدليلين و تمامية الحجة لكل منهما إحراز الملاك في كل منهما أيضا، إذ لا طريق لإحرازه إلا ذلك، فيكون مورد الشك من التزاحم لا التعارض.

ثم إنه نسب إلى المشهور القول بالامتناع و تغليب النهي ملاكا و خطابا، بحيث لا ملاك للأمر و لا خطاب له مع ذهابهم إلى صحة الصلاة في المحل المغصوب عند سقوط النهي عن الفعلية لعذر، من نسيان و نحوه.

فاشكل عليهم بأنه بعد سقوط الأمر ملاكا و خطابا، لا وجه للصحة حتى مع العذر.

و اجيب عنه بوجوه أحسنها: أن سقوط ملاك الأمر و فعليته ما دامي لا دائمي، يعني أنه مع فعلية النهي، لا ملاك للأمر و لا فعلية له لوجود المانع. و أما مع سقوط النهي عن الفعلية فلا محذور للأمر ملاكا و خطابا، و لا محذور في تغيير الحكم ملاكا و خطابا بتغير الحالات مع وجود الدليل عليه.

هذا كله بناء على الامتناع و تغليب النهي، و أما بناء عليه و تغليب الأمر، أو بناء على الجواز فلا ريب في الصحة مع العمد و الاختيار، فكيف مع العذر، كما لا ريب في سقوط الأمر مطلقا بإتيان المجمع في غير العباديات، سواء قيل

ص: 93

بالامتناع أو بالجواز - عمدا كان أو لعذر - و إن أثم في الصورة الاولى.

استدلال على جواز الاجتماع بامور و الجواب عنها

ثم إنهم استدلوا على جواز الاجتماع بامور:

الأول: ما عن المحقق القمي رحمه اللّه من أنه لا فرض لاجتماع الأمر و النهي أصلا، لأنهما متعلقان بالطبائع، و الفرد مقدمة لوجود الطبيعة، و مقدمة الواجب ليست بواجبة، فهذا البحث لا موضوع له أصلا، و على فرض وجوب مقدمة الواجب لا مانع من اجتماع الوجوب الغيري مع النهي النفسي، و إنما الممنوع هو اجتماع النفسي منهما.

و يرد عليه: أن الفرد عين الطبيعة، كما ثبت في محله، مع أنه تقدم عدم الفرق بين أقسام الأمر و النهي، مضافا إلى أنه بناء على مقدمية الفرد للطبيعة لا فرق بين الأمر و النهي، فكيف جعل رحمه اللّه الأمر مقدميا و النهي نفسيا.

الثاني: أن الامتناع لأجل التضاد و هو ثابت بين جميع الأحكام الخمسة، و لا اختصاص له بخصوص الوجوب و الحرمة، و قد جمع الوجوب مع الاستحباب، كالصلاة في المسجد، و هو مع الكراهة، كالصلاة في الأمكنة المكروهة، و الاستحباب مع الكراهة، كصوم يوم عاشوراء، و الصلوات المبتدئة في الأوقات الخاصة، فما يجاب به عن الاجتماع في هذه الموارد، يجاب به عن اجتماع الوجوب و الحرمة أيضا.

و فيه: أولا: أنه لا تضاد بين الوجوب و الكراهة، و بينه و بين الاستحباب، و بين الكراهة و الاستحباب بحسب الأنظار العرفية المنزّلة عليها الأدلة الشرعية.

فيكون خروجها عن مورد البحث تخصصا لا أن يكون تخصيصا، حتى يحتاج إلى دليل.

و يمكن المناقشة فيه: بأن التضاد أمر واقعي عقلي لا ربط لنظر العرف بالنسبة إليه، مع أن الوجوب و الندب، و الكراهة و الاستحباب، متضادان عرفا أيضا.

ص: 94

و ثانيا: أن الاستحباب في العبادات الواجبة إن كان بمعنى رجحان الفعل مع جواز الترك، لا بد أن يحمل جواز الترك على جهة خارجة عن ذات الواجب، مثل الخصوصية الخاصة التي تعلق بها الاستحباب، كلبس العقيق في الصلاة مثلا. و إلا لخرج عن وجوبه، إن تعلّق جواز الترك بذات الواجب، و هو خلف.

و الكراهة فيها و في العبادات، لا بد أن تحمل على الجهة الخارجة عن الذات للزوم رجحان الذات في العبادة مطلقا، و لا محذور فيه بعد ارتفاع غائلة اجتماع الضدين بتعدد الجهة، كما يأتي.

و ثالثا: الاستحباب في العبادات الواجبة بمعنى أكثر ثوابا، و الكراهة فيها و في العبادات المندوبة بمعنى الأقل ثوابا، و ليس ذلك من التضاد في شيء.

لا يقال: أقلية الثواب إن لوحظت بالنسبة إلى أصل طبيعة العبادة يلزم خروج الواجب عن وجوبه، لأن ثواب الطبيعة محدود بحد معين، فمع الخروج عنه يلزم الانقلاب، و إن لوحظ بالنسبة إلى الفرد، يلزم في كل فرد يكون أقل ثوابا بالنسبة إلى الفرد الآخر، أن يصير مكروها، و لا يقول أحد بذلك.

فإنه يقال: يمكن اختيار الأول من دون لزوم المحذور، لأن الطبيعة، ليست محدودة بحد خاص من الثواب قلة و كثرة، و هي لا اقتضائية بالنسبة إليه، بل ليس الثواب في مرتبة الطبيعة أصلا، و إنما هو معلول الامتثال القابل لزيادة الثواب و قلته بحسب الحالات و الخصوصيات، و يمكن اختيار الثاني أيضا و لا يلزم المحذور، إذ ليس المدعى أن كل ما هو أقل ثوابا من غيره فهو مكروه، بل المدعى أن ما دل عليه الدليل في عبادة أنها مكروهة، يمكن أن تكون الكراهة فيها بمعنى أقلية الثواب بالنسبة إلى غيرها، و لا محذور فيه أبدا.

و رابعا: أن الكراهة فيها اقتضائية لا فعلية، فلا تنافي العبادية الفعلية، فالمعنى أن في العبادات المكروهة اقتضاء الكراهة و لكن لا تصل إلى مرتبة الفعلية، لغلبة رجحان العبادة عليها.

ص: 95

الثالث: مما استدل به على الجواز: أن المتعارف يرون أن من يأتي بالصلاة في الدار المغصوبة - مثلا - مطيعا و عاصيا، و الأدلة الشرعية منزّلة على المتعارف.

و يرد عليه: بأنه صحيح لو لم يقم دليل على الامتناع.

الرابع: أن العبادة التي تعلق بها النهي التنزيهي على أقسام ثلاثة:

الأول: أن يتعلق النهي بالذات و لا بدل لها، كصوم يوم عاشوراء، و النوافل المبتدأة في أوقات خاصة.

الثاني: أن يتعلّق النهي بذات العبادة و لها بدل، كالصلاة في الحمام مثلا.

الثالث: أن لا يتعلّق النهي بالذات بل لخصوصية محفوفة بها، كالصلاة في مواضع التهمة.

أما الأول: فليس النهي لأجل مرجوحية في ذات العبادة حتى ينافي العبادية، بل إنما هو لأجل مصلحة في نفس الترك من حيث هو، فالفعل ذو مصلحة و الترك كذلك أيضا، و تكون مصلحة الترك أرجح، كما في المندوبين المتزاحمين إذا كان أحدهما أرجح من الآخر إلا أنهما بين الفعلين، و المقام بين الفعل و الترك، و لا محذور فيه من عقل أو نقل، لعدم سراية المصلحة التركية إلى ذات العبادة حتى تصير مرجوحة، بل هما ملحوظان مستقلان، كما في المتزاحمين.

و أما الثاني: فمضافا إلى أنه يمكن أن يكون النهي للإرشاد إلى اختيار غيره مما هو أفضل، يجري فيه عين ما تقدم في القسم الأول أيضا.

و أما الأخير: فمضافا إلى ما يجري فيه من الوجهين، أنه يمكن أن يكون النهي فيه عن نفس الخصوصية المحفوفة بالعبادة من دون أن يسري إلى ذات العبادة أبدا.

و بالجملة المغالطة حصلت من التباس النهي في العبادة بالنهي المتعلّق

ص: 96

بغيرها، و قد ذكرت وجوه اخرى واضحة الفساد.

استدلال على الامتناع

و استدل على الامتناع بوجوه:

منها: ما عن الكفاية، و هي مركبة من مقدمات.

إحداها: تضاد الأحكام في مرتبة الفعلية، فيكون من اجتماع الضدين في واحد شخصي خارجي، و هو محال بنفسه، لا أن يكون من التكليف بالمحال.

و فيه: أن اجتماع الضدين المحال منحصر بما إذا كان كل واحد من الضدين موجودا خارجيا، و الأحكام مطلقا من الامور الاعتبارية، فليست هي من الموجودات الخارجية، و على فرض تحقق الضدية في الاعتباريات، يكفي في رفعها التغاير الاعتباري و هو ثابت قطعا، فهذه المقدمة باطلة من أصلها.

ثانيها: أن متعلّق الأحكام ما يصدر عن المكلف خارجا، و هو موجود شخصي خارجي، فيلزم فيه اجتماع الضدين، لا أن يكون اسمه و عنوانه الكلي حتى لا يلزم المحذور.

و فيه: أن المتعلق اعتبار فعل المكلف و فرضه بالفرض الصحيح العرفي، و ليس لمثل هذا الاعتبار وجود حقيقي خارجي، بل هو قائم بالاعتبار و ليس هو متحدا مع الخارجيات كاتحاد الطبيعي و أفراده، بل يكون نظير ربط الإشارة بالمشار إليه، فالأحكام اعتبارية و موضعها أيضا اعتباري، و لا محذور في اجتماع مثل هذا القسم من الضدين، لعدم الوجود الخارجي فيه، و لا بأس بصدق الضدية و الاعتبارية، و تقدم أنه يكفي في رفعها التغاير الاعتباري، فهذه المقدمة باطلة أيضا.

ثالثها: أن تعدد الوجه و العنوان لا يوجب تعدد المعنون و لا يضر بوحدته، كما في الواجب تعالى، فإنه مع كمال بساطته يصدق عليه جميع صفات الجلال و الجمال.

و فيه: أن القياس مع الفارق جدا، فإنه تعالى في كمال البساطة - و فوق ما

ص: 97

يتعقل من معنى البساطة - و غيره تعالى مركب خصوصا مثل الصلاة - التي تكون من المركب الاعتباري - المتقومة من امور كثيرة - من النية، و الحركة، و القول، و السكون و نحوها - فالوحدة فيها اعتبارية - لا أن تكون حقيقية - فالمعنون يكون متعددا حقيقيا لا أن يكون واحدا كذلك، و في مثله يكون تعدد الوجه و العنوان كاشفا عن تعدد المعنون لا محالة. نعم، لا ريب في أن له وحدة اعتبارية، و تقدم أنه لا محذور في اجتماع الضدين الاعتباريين في الواحد الاعتباري، فهذه المقدمة باطلة.

رابعها: أنه ليس للموجود الواحد إلا ماهية واحدة، فالمجمع و إن كان مورد الأمر و النهي لكنه واحد وجودا و ماهية، و تقدم أن تعدد الوجه و العنوان لا يوجب تعدد المعنون، فيكون من اجتماع الضدين المحال.

و فيه: أن الموجود الواحد له ماهية واحدة في الحقائق البسيطة لا المركبات الاعتبارية، فيصح تقوّمها بماهيات كثيرة، كما هو أوضح من أن يخفى.

المقام من الثاني دون الأول.

فظهر من ذلك كله عدم صحة جميع المقدمات التي ذكرها رحمه اللّه لإثبات الامتناع، لأن التعدد الاعتباري يكفي في رفع التضاد بين الاعتباريات، و إذا بطلت المقدمة تبطل النتيجة لا محالة.

كما لا وجه لدعوى أن جواز الاجتماع مستلزم لنقض الغرض، لأن الأمر بالشيء لدرك المصلحة و التقرب بالمأمور به إلى اللّه تعالى، و هو لا يجتمع مع النهي الفعلي. إذ فيه مضافا إلى أنه عين المدعي، أنه لا محذور فيه بعد تعدد الجهة، فيجلب المأمور المصلحة من جهة و يقع في المفسدة من جهة اخرى، و لا محذور فيه من عقل أو نقل أو عرف، بل هو واقع كثيرا و يتقرّب إلى اللّه تعالى من جهة و يقع في المفسدة من اخرى، و لا يلزم التقرّب بعين ما هو مبعد،

ص: 98

لفرض تعدد الجهة، بل يكون التقرّب إليه تعالى بشيء و التباعد عنه تعالى بشيء آخر و إن كانت لهما وحدة اعتبارية.

فتلخص: أن ما يقال في وجه الامتناع جميعها باطل، و كفى بذلك دليلا على الجواز، فيشك في بطلان الصلاة في المجمع، فمقتضى البراءة عدم المانعية و البطلان بعد إمكان التفكيك بين المأمور به و النهي عنه عقلا، و بعد شمول أدلة البراءة للحرمة الغيرية أيضا، كما هو الحق. هذا كله بحسب الدقة العقلية.

و أما بحسب الأنظار العرفية المنزلة عليها الأدلة، فالاجتماع ممتنع.

فيمكن الجمع بين الكلمات، فمن قال بالجواز أي بحسب الدقة العقلية، و من قال بالامتناع أي بحسب الأنظار العرفية المسامحية.

إن قلت: هذا في غير السجدة و القيام، و أما فيهما فالمأمور به عين المنهي عنه، إن كانت في المحل المغصوب حتى بالدقة العقلية.

قلت: يمكن تعدد الجهة فيهما أيضا، لأن السجدة وضع الجبهة على الأرض، و القيام وضع خاص، و إباحة المحل خارجة عن حقيقتهما، و إنما هي شرط خارج اعتبره الشارع.

ص: 99

ختام فيه أمران..
الأمر الأول:

لو اضطر إلى الكون في المحل المغصوب]

، و لم يكن ذلك بسوء اختياره، يجب عليه الخروج مع الإمكان، لوجوب تفريغ ملك الغير عن الكون فيه عقلا و شرعا، و لا حرمة في التصرفات الخروجية، لمكان الاضطرار بل تتصف بالوجوب فقط، و لا يحرم بقاؤه فيه مع عدم التمكن من الخروج و تصح صلاته فيه مع استيعاب الاضطرار، كل ذلك لقاعدة نفي الحرج، و حديث الرفع، بل الظاهر كونه من ضروريات المذهب إن لم تكن من الدين، من دون فرق في ذلك كله بين القول بجواز اجتماع الأمر و النهي، و القول بعدمه.

و أما إذا كان ذلك بسوء اختياره فالبحث..

تارة: في حكم خروجه عنه عرفا.

و اخرى: بحسب مسألة اجتماع الأمر و النهي بناء على الجواز.

و ثالثة: بحسب تلك المسألة بناء على الامتناع.

أما الأول: فالظاهر عن حال الناس رضاؤهم بخروج الغاصب و الظالم و السارق عن ملكهم، لا سيما إذا كان بعد إظهار ندامته و توبته، و عدم حصول تضرر في مالهم، و التضمين لو تحقق ضرر عليهم، بل الظاهر أن متعارف الناس يستنكرون على المالك لو أظهر عدم رضائه بالخروج مع ما ذكرناه. فإذا رضي المالك بالخروج يجب بلا إشكال، لوجود مقتضيه، و بذلك تسقط جملة من الأقوال، لبنائها على حرمة الخروج.

و يشهد لما قلناه عدم تعرضهم قدس سرّهم في ردّ المغصوب المنقول لاحتمال

ص: 100

الحرمة، بل يصرّحون بوجوبه مطلقا مع أن المسألتين من واد واحد. و يمكن أن يقال: بأن الشارع يسقط اعتبار رضاه مع عدم التضرر، بل و معه لكن مع التضمين، فيصح الأمر بالخروج بلا مانع و مدافع، كما في صورة اضطرار الشخص إلى تناول غذاء الغير حفظا لنفسه و لو كان الاضطرار بسوء اختياره، و كما في مورد الاحتكار، فتخرج المسألة عن مورد البحث حينئذ.

و أما الثاني: فقد نسب إلى القائلين بالجواز أنه يتصف بالوجوب و الحرمة معا، لما عرفت من تعدد الحيثية. و لكنه مردود..

أولا: بما مرّ من أنه لا بد من اعتبار المندوحة في المسألة، و لا مندوحة في المقام.

و ثانيا: بأنه لا يتصور النهي الفعلي لمكان الاضطرار، فليس في البين تعدد الحكم حتى يكون من مورد الاجتماع إلا أن يقولوا بفعلية النهي في مورد الاضطرار إن كان حاصلا بسوء الاختيار، و لكنه من الدعوى بلا شاهد عليها بل هو على خلافها، لبنائهم في الفقه على سقوط النهي مع الاضطرار مطلقا، و مع ذلك ليس من مسألة الاجتماع لعدم المندوحة.

و أما الثالث: فقيل بوجوب الخروج شرعا بلا عقاب عليه فعلا لا من جهة النهي الفعلي و لا من جهة النهي السابق، لأن الاضطرار يسقط الخطاب و الملاك معا، فالمقتضى للوجوب موجود و المانع عنه مفقود.

و أشكل عليه.. أولا: بأن سقوط الخطاب لأجل الاضطرار معلوم بخلاف أصل المبغوضية، بل هو ثابت فلا وجه لتعلق الوجوب الشرعي بما هو مبغوض فعلي.

و فيه: إنه مبني على ترجيح ملاك الإيجاب على جهة المبغوضية تقديما للأهم على المهم فلا محذور فيه من هذه الجهة، فيكون نظير وجوب بيع مال الغير عند الاحتكار و الاضطرار مع أن التصرف في ملك الغير مبغوض مطلقا.

ص: 101

و ثانيا: بأنه يكون الإيجاب الشرعي لغوا و بلا أثر مع حكم العقل بلا بدّية الخروج.

و فيه: أن حكم الشرع حينئذ يكون إتماما للحجة، و تأكيدا لحكم العقل، و قطعا لعذر المكلف، كما في حرمة الظلم التي استقل العقل و العقلاء بها، و كما في وجوب ردّ المغصوب المنقول مع وجوبه عقلا و شرعا، و لو كان ذلك بسوء الاختيار فلا محذور في الوجوب الشرعي مع اللابدّية العقلية.

و أما عدم العقاب فلانقلاب موضوع الاختيار إلى الاضطرار، فتنقلب العوارض و اللوازم التابعة للموضوع لا محالة.

و قيل: بأنه واجب مع جريان حكم العقاب السابق عليه، و أما بالنسبة إلى الوجوب فقد تقدم تصحيحه و عدم المحذور فيه، و أما بالنسبة إلى جريان حكم العقاب فلا دليل عليه إلا جملة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا و إن نافاه خطابا».

و فيه: إنه لم يقم دليل من عقل أو نقل على كلية هذه الجملة، و عدها من القواعد المعتبرة و إن كانت صادقة على نحو الإهمال و في الجملة في مورد عمل الأصحاب بها فتنجبر بالعمل، و اعتبارها في المقام أول الكلام.

و قيل: بعدم الوجوب الشرعي أصلا، و لكن العقل يحكم باختيار أقل القبيحين.

و فيه: ما ثبت من إمكان تصوير الوجوب الشرعي من دون محذور فيه، نفسيا كان أو غيريا. هذا ما يتعلق بحكم الخروج.

و أما حكم الصلاة في حال الخروج فلا تصح في سعة الوقت و إمكان إتيانها في محل مباح بالاتفاق حتى عند القائلين بالجواز، و أما في الضيق فهي صحيحة حال الخروج بناء على الجواز، و كذا بناء على الامتناع و رضاء المالك بالخروج، كما استظهرناه، و كذا بناء على عدم رضاه مع تغليب جانب الأمر.

ص: 102

نعم بناء على عدم رضاه و تغليب جانب النهي لا وجه للصحة، و لكن أنى لنا إثبات ذلك في ضيق الوقت، مع أن الصلاة لا تسقط بحال، و يأتي أنه لا دليل على تغليب النهي مطلقا.

الأمر الثاني: اجتماع الاحكام فى واقعه

لا ريب في أنه لا تخلو واقعة من حكم من الأحكام، فبناء على الجواز يكون مورد الاجتماع محكوما بالوجوب و الحرمة لتعدد الجهة، كما هو المفروض و أما بناء على الامتناع فلا بد من إثبات أحدهما، سواء كانت المسألة من باب التزاحم أم التعارض، و قد قيل بتغليب الحرمة في مورد الاجتماع، و طريقه منحصر إما بالدليل الخاص، أو القرائن العامة المعتبرة، و مع عدمها تصل النوبة إلى الأصل العملي.

أما الأول فلم يدعيه أحد. نعم ادعوا الإجماع على بطلان الصلاة في المغصوب مع العمد و الاختيار، و الظاهر تسالم القائلين بالجواز عليه أيضا، و يرد عليه: مضافا إلى أنه ليس من الإجماعات التعبدية، بل حاصل مما يأتي من الوجوه التالية، أنه مختص بخصوص الصلاة و لا يجري في غيرها إلاّ أن يدعى الإجماع على عدم الفرق بين جميع الموارد. فتأمل.

و أما الثاني فقيل فيه وجوه..

منها: أن العموم في النهي شمولي و في الأمر بدلي، و الأول مقدم على الثاني.

و فيه: أنه كذلك إن كان الشمول وضعيا، و أما مع كون الشمولية و البدلية كلاهما بمقدمات الحكمة، فلا وجه للتقديم لتساويهما في مناط الاعتبار.

و منها: أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

و فيه: إن بناء العقلاء على تقديم أقوى الملاكين، سواء كانا مصلحتين، أم

ص: 103

مفسدتين، أم بالاختلاف، مع أنه فيما إذا لم يمكن الجمع بينهما، و في المقام يمكن جلب المصلحة و دفع المفسدة، بأن يصلى في غير المغصوب، لما تقدم من اعتبار قيد المندوحة في مورد النزاع.

و منها: أن مقتضى الاستقراء تغليب جانب النهي على الأمر عند الدوران بينهما، كحرمة الصلاة على الحائض في أيام الاستظهار، و حرمة الوضوء من الإناءين المشتبهين.

و فيه: أن ثبوت الاستقراء بالظفر على موردين مع وقوع الخلاف فيهما أيضا لا وجه له، بل مقتضى سهولة الشريعة سقوط فعلية الحرمة عند عدم إمكان إتمام الدليل عليها، كما في جميع الشبهات التحريمية، و يعلم من ترتيب الشارع الأقدس أحكام الوطء الصحيح على الوطء بالشبهة، و صحة الصلاة مع الجهل بالغصب و نحو ذلك من الموارد التي ثبتت الصحة فيها أن مجرد المبغوضية الواقعية ما لم تكن مقرونة بالمنجزية الفعلية لا أثر لها، هذا مع أنه لا ربط للمثالين بالمقام إذ الحرمة فيهما تشريعية لا ذاتية، و المقام من الثاني دون الأول.

فتلخص أنه لا وجه لتقيم النهي على الأمر في مورد الاجتماع، و حينئذ فمقتضى البراءة العقلية و النقلية عدم فعلية النهي، و بعبارة أخرى أصالة عدم المانعية لمثل هذا النهي الذي لم تثبت غلبة مفسدته على مصلحة الأمر، فتصح الصلاة، لإطلاق دليلها الشامل لمورد الاجتماع أيضا، مع وجود المصلحة فيها.

إن قلت: مقتضى عموم النهي شموله لمورد الاجتماع أيضا، مع أنه تعتبر في العبادة المصلحة الغالبة على المفسدة و هي مشكوكة.

قلت: أما شمول النهي الكاشف عن فساد الصلاة فهو ممنوع إلا مع ثبوت غلبة المفسدة، و فعلية النهي، و كلاهما ممنوعان.

و أما اعتبار غلبة المصلحة في العبادة، فلا دليل عليه بل يكفي مطلق المصلحة ما لم تكن مرجوحة. فالأقسام ثلاثة: تغليب المفسدة على مصلحة

ص: 104

الأمر، و تساوي المصلحة مع المفسدة، و كون المفسدة مرجوحة بالنسبة إلى المصلحة، و عدم صحة الصلاة يختص بالقسم الأول.

ثمرة البحث:

الظاهر أنه لا ثمرة عملية لهذا البحث الطويل، لأن مورد الاجتماع إن كان توصليا فيسقط الوجوب بالإتيان بالمجمع مع الإثم اتفاقا. و إن كان تعبديا و كان له بديل، فالكل متفقون على أنه يتعين اختيار البدل و لا يجوز الإتيان بالمبدل، و إن لم يكن له بدل و كان في سعة الوقت و إمكان التأخير و الإتيان بغير مورد الاجتماع، فظاهرهم التسالم على التأخير، و إن كان في الضيق و عدم إمكان التأخير فيظهر منهم عدم الخلاف في لزوم الإتيان في المجمع حينئذ، هذا كله بناء على القول بتغليب النهي بناء على الامتناع، كما نسب إلى المشهور. و أما بناء على عدم التغليب، كما مرّ فعدم الثمرة بين القولين أظهر من أن يخفى.

ص: 105

القسم الثالث: المفاهيم

تمهيد فيه امور:

الأول: لم يرد لفظ المفهوم في الكتاب و السنة

حتى يكون من الموضوعات الشرعية أو المستنبطة التي تحتاج إلى النظر و البحث، بل هو من الامور المحاورية، و قد يطلق و يراد به المعنى، فيكون مدلول اللفظ معنى من حيث أنه عني من اللفظ. و مدلولا من حيث دلالته عليه. و مفهوما من حيث أنه يفهم من اللفظ، فالحقيقة واحدة و التعبير مختلف.

و قد يطلق في العرف - و منه الاصطلاح الاصولي - على ما يلازم الكلام عرفا، و غير مذكور في اللفظ بحدوده و قيوده بحيث يصح الاعتماد عليه في المحاورات و الاحتجاجات، سواء كان الكلام إنشائيا، مثل: أكرم زيدا إن جاءك، أم إخباريا مثل: إن ضربتني ضربتك، و هذا هو المراد من جميع التعريفات و إن اختلفت التعبيرات، فيصح أن يقال: إنه حكم لغير مذكور؛ أو حكم غير مذكور، و المقصود بهما واحد.

و لا ريب في أن الدلالية و المدلولية و الدلالة، من الامور الإضافية فيستلزم كل منها الآخر، و لا يتحقق إحداها بدون الأخريين، فما يكون من صفات إحداها يكون من صفات البقية بالملازمة، فيصح أن يكون المفهوم من صفات الدلالة، أو الدال، أو المدلول، و إن كان بالأخير أقرب عرفا.

ص: 106

كما أن كون المفاهيم من الدلالات الإطلاقية السياقية أقرب لدى العرف من كونها من الدلالات الوضعية، و يشهد له أصالة عدم التفات الواضع إلى هذه الخصوصية، و إن كان من لوازم الكلام عرفا فيما إذا كان ترتب الجزاء على الشرط على نحو ترتب المعلول على العلة التامة، و ذلك لأن هذا اللزوم أعم من أن يكون ملحوظا حين الوضع، كما هو واضح.

الثاني: المفهوم إما موافق مع المنطوق في الإيجاب و السلب

، و يسمى (بمفهوم الموافقة)، و الأولوية، و الفحوى. كقوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ فيدل على ترك اللهو و اللعب بالأولى، و قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فيدل على حرمة الإيذاء بالأولى.

و أما مخالف له و يسمى (بمفهوم المخالفة)، كقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.

الثالث: مورد البحث فى المفهوم، النزاع فيه انما هو صغرى، امكان ادخال بحث المفاهيم فى مباحث الملازمات

لا ريب في أن شخص الحكم المتقوّم بالموضوع في المنطوق ينتفي بانتفائه قهرا، و لا ينبغي أن يكون ذلك مورد النزاع، و لذا اتفقوا على أنه لا مفهوم في الوصايا، و الأقارير، و الأوقاف و نحوها، إذ ليس المنشأ فيها إلا شخص الحكم المتقوّم بموضوع خاص، فليس ذلك كله من المفهوم في شيء أبدا.

و مورد البحث في المفهوم انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الموضوع، لا انتفاء شخصه.

إن قلت: إن ما حدث في المنطوق إنما هو شخص الحكم، و هو منتف بانتفاء موضوعه قهرا، و السنخ لم يحدث أصلا حتى يبحث عن انتفائه أو عدمه.

قلت: المنشأ في المنطوق إنما هو طبيعي الحكم و هو غير مقيد بخصوص الموضوع و إن تقيد حصة منه بذلك، و إن شئت قلت: إنه إن كان القيد قيدا لطبيعي الحكم المنشأ فلا ريب في المفهوم، لأن زوال حصة من الطبيعي بزوال الموضوع لا يوجب زوال أصله، و إن كان للحصة فلا ريب في عدم ثبوته، لانعدام أصل الحكم المنشأ حينئذ.

ص: 107

ثم إن النزاع في حجية المفهوم صغروي فقط، بمعنى أنه هل يكون للجملة الشرطية - مثلا - مفهوم أو ليس لها مفهوم؟ و ليس نزاعا كبرويا، بمعنى أنه هل يكون المفهوم حجة أو لا؟ لأن بناء العقلاء على اعتباره على فرض ثبوته، فلا يكون مورد البحث من هذه الجهة.

و لنا أن ندخل مباحث المفاهيم مطلقا في مباحث الملازمات العقلية غير المستقلة، لحكم العقل بثبوت المفهوم إن ثبت كون القيد علة تامة منحصرة للحكم، و عدم حكمه كذلك، بل حكمه بالعدم مع عدم ثبوت العلية التامة المنحصرة، فالجامع بين جميع المفاهيم ليس إلا ذلك.

الرابع: تاسيس الاصل فى المسألة الاصولية و المسألة الفرعية
اشارة

لا أصل في المسألة الاصولية يتمسك بها إلا بناء على جريان الأصل في الأعدام الأزلية، و أما في المسألة الفرعية فإن كان في البين أصل موضوعي فهو المرجع، و إلا فيرجع إلى أصالة البراءة، فتكون النتيجة متحدة مع ثبوت المفهوم و هو انتفاء الحكم.

عدد المفاهيم
اشارة

ثم إن المفاهيم كثيرة، و قد أنهاها في كشف الغطاء إلى عشرين، و لكن المعروف منها عند الاصوليين ستة: مفهوم الشرط، و الوصف، و الغاية، و الحصر، و اللقب، و العدد.

و الضابطة الكلية في تحقق المفهوم في الجميع تحقق العلية التامة المنحصرة لما ذكر موضوعا في المنطوق، فمع تحققها لا شبهة في تحقق المفهوم، و مع عدم العلية، أو عدم التمامية، أو عدم ثبوت العلية التامة المنحصرة لموضوع الحكم المذكور في المنطوق بالنسبة إليه و عدمه، فلا وجه للمفهوم أصلا، و استظهار ذلك لا بد أن يكون من العرف و المحاورات.

ثم إن الحاكم بثبوت المفهوم بعد الاستظهار إنما هو العقل، و لهذا أمكن إدراج هذه المباحث في العقليات غير المستقلة كما عرفت، و لكن ذكرناها في مباحث الألفاظ تبعا للقوم، مع أنها بحسب الأنظار العرفية من سنخ الدلالات اللفظية.

ص: 108

الأول: مفهوم الشرط
اشارة

ثبوت المفهوم للجمل الشرطية متوقف على أن يكون الجزاء مترتبا على الشرط، كترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة، فلا بد في ثبوته من إحراز هذه القيود الثلاثة. و إلا فلو كان الترتب من مجرد ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر)، أو ترتب المعلول على العلة غير التامة المنحصرة، يسقط المفهوم لا محالة.

فمع انتفاء أصل العلية - بأن كان الترتيب اتفاقيا - أو التمامية - بأن كان من ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) - أو الانحصار - بأن كان من ترتب المعلول على علل متعددة - لا وجه للمفهوم عقلا و اتفاقا. و لا ريب في تحقق الثلاثة في القضايا التي سيقت لبيان الموضوع كقول: «إن رزقت ولدا فاختنه» و نحوها الدالة على المفهوم لقرائن قطعية، و إنما البحث في بيان قاعدة كلية جارية في جميع القضايا الشرطية.

و ما قيل في دلالتها على المفهوم وجوه:

الأول: أن دلالتها على العلية التامة المنحصرة وضعية، لتبادرها منها.

و فيه: أن المتبادر مطلق الترتب في الجملة، لا على نحو العلية فضلا عن التامة أو المنحصرة، مع أنه يلزم أن يكون استعمالها في مطلق الترتب بناء على تبادر العلية التامة المنحصرة مجازا، و هو مشكل.

و كون ذلك من باب تعدد الدال و المدلول أشكل، لأصالة عدم وجود دال آخر و لو بالأصل الأزلي.

الثاني: أن ذلك من باب الانصراف.

و فيه: أنه ممنوع لغلبة الاستعمال في مطلق الاقتضاء و الترتب، و على فرض الصحة فهو بدوي لا اعتبار به.

ص: 109

الثالث: إنها إطلاقية، فإن كل واحد من إطلاق الشرط، و إطلاق ترتب الجزاء عليه، و إطلاق نفس الجزاء يقتضي العلية التامة المنحصرة، إذ لو كان في البين شرط آخر، أو كان الترتب على نحو الاقتضاء، أو صح أن يكون الجزاء جزاء لشرط آخر لذكر - و لو في كلام آخر - و حيث لم يذكر فيستفاد العلية التامة المنحصرة لا محالة، كما يستفاد الوجوب العيني التعييني النفسي عن إطلاق الأمر.

و فيه - أولا: أنه يعتبر في التمسك بهذه الإطلاقات إحراز كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهات أيضا، و مع عدم الإحراز لا وجه للتمسك بها، إلا أن يقال: إن مقتضى ظاهر حال المتكلم حين التكلم كونه في مقام بيان كل ما له دخل في مراده مطلقا إلا مع القرينة على الخلاف، فيكون حكم صورة الشك حكم صورة إحراز كونه في مقام البيان، لأصالة كونه في مقام البيان، و هي من الاصول المحاورية المعتبرة في المحاورات و الاحتجاجات.

و ثانيا: أن ذلك ليس إلا دعوى الانصراف الذي تقدمت المناقشة فيه، كما أن الاستدلال عليه بأن الظاهر من الجزاء ترتبه على خصوص الشرط، و إلا لكان مستندا إلى الجامع و هو خلاف الظاهر، يرجع إلى أحد الوجوه المتقدمة، فلا وجه لجعله دليلا مستقلا.

و هذه الوجوه و إن أمكنت المناقشة فيها، لكن مجموعها بقرينة بناء العرف على استفادة العلية التامة من الجمل الشرطية، يكفي لإثبات المطلوب.

و قد استدل على عدم المفهوم..

تارة: بأنه لو ثبت لكان بإحدى الدلالات، و الكل منتفية.

و أخرى: بقوله تعالى: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً، فإن مفهومه جواز الإكراه مع عدم التحصّن، و هو ضروري البطلان.

ص: 110

و ثالثة: باحتمال أن يكون في الواقع شرط آخر لم يذكر في اللفظ.

و الجميع مردود: لأن الدلالة الالتزامية العرفية ثابتة، و عدم المفهوم بقرينة قطعية في الآية لا ينافي ثبوته في غيرها، و احتمال وجود شرط آخر مدفوع بظاهر الإطلاق، كما مر.

و يلحق بذلك مبحثان:

المبحث الأول الشرط و الجزاء اما متحدان أو يكون الشرط واحدا و الجزاء متعدد أو بالعكس

الشرط و الجزاء إما أن يكونا متحدين، كما إذا قيل: إن جاءك زيد فأكرمه.

و إما أن يتعددا، كما إذا قيل: إن جاءك فأكرمه، و إن سلّم عليك فسلّم عليه.

و إما أن يكون الشرط واحدا و الجزاء متعددا، أو يكون عكس ذلك، بأن يكون الشرط متعددا و الجزاء واحدا. و لا ريب في صحة الجميع ثبوتا و إثباتا في المحاورات.

و إنما البحث في الأخير مثل قولهم: «إذا خفي الأذان فقصّر، و إذا خفي الجدران فقصّر»، فإن كانا متلازمين في التحقق الخارجي، فلا ريب في أن الشرط واحد و هو الجامع بينهما. و إن كانا مختلفين فيتحقق التعارض بين إطلاقي المنطوقين و بين مفهوميهما لا محالة، و لا بد حينئذ من دفع التعارض صونا للكلام عن اللغوية.

و دفعه منحصر بإسقاط العلية التامة المنحصرة عن الشرط، و يحصل ذلك بتقييد إطلاق كل واحد من الشرطين بالآخر، أما بالنسبة إلى التمامية فيكونان معا شرطا واحدا، فلا بد في ثبوت القصر من تحققهما معا و لا يكفي ثبوت أحدهما، أو تقييد إطلاق كل واحد منهما بالآخر بالنسبة إلى الانحصار فيجب القصر

ص: 111

بثبوت أول الشرطين، و يكون الآخر كاشفا عن ثبوت العلة سابقا، و هذان الوجهان يشتركان في تقييد إطلاق الشرطين، فيسقط المفهوم لا محالة لابتنائه على الإطلاق من كل جهة؛ و مع تقييده - و لو من وجه - ينتفي المفهوم قهرا.

و الظاهر أن العرف في نظائر المقام يساعد على الوجه الأول، و مع عدم الاستظهار العرفي و تردد التقييد بين أحد الوجهين يسقط المفهوم أيضا، للعلم الإجمالي باختلال شرط تحققه، و باقي الوجوه المذكورة في الكفاية و غيرها إن رجع إلى ما ذكرناه فهو، و إلا فهي ساقطة، كما هو واضح.

ص: 112

المبحث الثاني اذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء فهل يتعدد الجزاء يتعدد شرط؟
اشارة

بناء على أن كل شرط علة تامة منحصرة لترتب الجزاء، فإذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء في ظاهر الخطاب، فهل يتعدد الجزاء أيضا بتعدد الشرط، كما إذا قال: إذا بلت فتوضأ، فبال مكررا، فهل يجب تكرار الوضوء أيضا؟ و تنقيح البحث يقتضي بيان امور:

بيان امور
أحدها: الشروط المتعددة اما من صنف واحد أو لا

الشروط المتعددة إما من صنف واحد أو لا، و على كل منهما فإما أن يكون المحل قابلا لتعدد الجزاء - و لو بالاشتداد و الضعف - أو لا. و الجميع داخل في محل النزاع إلا الأخير، لأنه مع عدم قابلية المحل للتعدد، فحينئذ ينتفي النزاع عقلا بانتفاء أصل موضوعه.

ثانيها: تداخل الاسباب، و تداخل المسببات

يمكن القول بتعدد الجزاء مطلقا حسب تعدد الشرط، كما يمكن التفصيل بين وحدة الشرط صنفا فيتحد الجزاء، و بين تعددها كذلك فيتعدد. كما يمكن إرجاع الشروط المتعددة مطلقا إلى واحد، و يعبّر عنه بتداخل الأسباب، أو الاكتفاء عن الجزاءات المتعددة في مقام الامتثال بواحد، و يعبّر عنه بتداخل المسببات. و التداخل فيهما إما رخصة أو عزيمة. هذه هي عمدة الوجوه المحتملة ثبوتا في المقام.

ثالثها: ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط إلا مع القرينة على الخلاف، و هى على قسمين
اشارة

ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث كل شرط، فلا بد حينئذ من تعدد الجزاء حسب تعدد الشرط إلا إذا دلت قرينة معتبرة على الخلاف، فيدل على تداخل الأسباب أو تداخل المسببات، و هي على قسمين:

الأول: القرينة الخاصة، و هي في موارد مخصوصة

، كظهور إجماعهم على كفاية طهارة واحدة، عند اجتماع أحداث صغرى من صنف واحد أو من أصناف شتى. و كذا بالنسبة إلى كل واحد من الأحداث الكبرى إذا تكرر من

ص: 113

صنف واحد، بل و من أصناف متعددة، لقول أبي جعفر عليه السّلام: «إذا اجتمعت للّه عليك حقوق يجزيك غسل واحد».

الثاني: القرينة العامة و هى كثيرة و المناقشة فيها

و هي كثيرة:

منها: أن تعدد الجزاء حسب تعدد الشرط يوجب اجتماع المثلين، لأن الجزاء طبيعة واحدة، فيتعدد الوجوب بالنسبة إلى الطبيعة الواحدة، فيلزم اجتماع المثلين.

و فيه.. أولا: أن موضوع اجتماع المثلين المحال إنما هو في ما إذا كان المثلان عرضا خارجيا، فلا موضوع له في الأحكام التي هي من الاعتباريات العقلائية؛ و لا تكون من الموجودات الخارجية.

و ثانيا: أنه يلزم إذا لوحظت الطبيعة على نحو الوحدة لا من حيث السريان إلى الأفراد، و إلا يتعدد الوجوب حسب تعدد الأفراد قهرا.

و منها: أن إطلاق متعلق الجزاء يقتضي الاكتفاء بمجرد إتيانه مرة واحدة فقط، فإن مقتضى الإطلاق مطلوبية صرف الوجود حتى مع تعدد الشرط و هو يحصل بالمرة.

و فيه: أنه كذلك لو لم تكن قرينة على الخلاف، و ظهور تعدد الجزاء بتعدد الشرط من القرينة على الخلاف، مع أنه يقتضي الاكتفاء بصرف الوجود بالنسبة إلى طلبه فقط، و لا نظر له بالنسبة إلى طلب آخر و قضية اخرى.

و منها: أن الجملة الشرطية عند تعدد الشرط لا تدل على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، بل على مجرد الثبوت الأعم من الحدوث الحاصل بالشرط الأول، و البقاء الكاشف عن الشرط الثاني، فأصل الحدوث حاصل بالشرط الأول، و باقي الشروط تكشف عن البقاء.

و فيه.. أولا: أنه من مجرد الدعوى، و لا شاهد عليها من عقل أو نقل.

و ثانيا: أنه يلزم أن تكون جملة شرطية واحدة بالنسبة إلى شخص دالة على الحدوث و بالنسبة إلى آخر دالة على البقاء، بل يلزم ذلك بالنسبة إلى

ص: 114

حالات شخص واحد أيضا، و فيه من الغرابة ما لا يخفى.

و منها: أن الجزاء و إن كان متعددا واقعا، و لكنه يجزي الواحد من باب تداخل المسببات، كما إذا ورد: أكرم عالما، و أكرم هاشميا، و أكرم عادلا، أي أكرم من كان جامعا لهذه الصفات.

و فيه: أنه يحتاج إلى دليل و هو مفقود، و المثال أجنبي عن المقام، لأنه في ما إذا كان بين العناوين المنطبقة على الواحد عموما من وجه و تصادقت عليه، و في المقام لا يكون الجزاء إلا طبيعة واحدة قابلة للتكرر.

و كذا لو قيل: بأن الجزاء يحدث عند كل شرط تأكيدا لا تأسيسا، فيكون من تداخل المسببات أيضا، فإنه خلاف الظاهر، مع أن مقتضى الأصل في المحاورات هو التأسيس لا التأكيد.

و منها: أن العلل و الأسباب الشرعية ليست حقيقية حتى يمتنع اجتماعهما على واحد، بل هي معرّفات و كواشف، فالعلة في الواقع واحدة و الجزاء يكون واحدا.

و فيه: أنه لا فرق بين العلل التكوينية و الشرعية في أنهما حقيقة تارة، و كواشف عن العلل الحقيقية اخرى. و الظاهر كونها حقيقية إلا مع الدليل على الخلاف، و لا دليل كذلك على نحو الكلية.

فتبين من جميع ما تقدم أن مقتضى الظاهر تعدد الجزاء بتعدد الشرط، سواء كان من صنف واحد أم كان من أصناف متعددة، و أن القول بتداخل الأسباب أو المسببات يحتاج إلى دليل خاص.

و لكن يمكن أن يقال: انه في ما إذا تعاقبت الشروط المتعددة من صنف واحد على محل واحد و لم يتخلل الجزاء بينهما، كانت تلك الشروط بمنزلة شرط واحد عرفا، لأن المنساق عند المتعارف حينئذ أن الجنس شرط، لا أن يكون خصوص الفرد شرطا، و الأدلة الشرعية منزّلة على العرفيات، و لذا استقرت سيرة العلماء في الفقه على ذلك، كما لا يخفى.

ص: 115

تذنيبان:
الأول: تعيين المرجع فى حالة الاجمال، و عدم استظهار تعدد الجزاء مع تعدد الشرط

لو فرض الإجمال و عدم استظهار تعدد الجزاء مع تعدد الشرط، فإن كان الشك في أن التكليف في الواقع واحد أو متعدد، فهو من موارد الأقل و الأكثر، فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر، و يتحد في النتيجة مع تداخل الأسباب.

و إن احرز تعدد التكليف، و شك في أن الجزاء الواحد يجزي عن التكاليف المتعددة، فمقتضى قاعدة الاشتغال عدم الإجزاء و وجوب التعدد، و إن شك فيهما معا فيكون من القسم الأول و تجري البراءة عن الزائد.

الثاني: قد ورد الدليل على كفاية جزاء واحد عن شروط متعددة في موارد خاصه

منها: ما تقدم من كفاية وضوء واحد عن أحداث صغرى، سواء كانت من صنف واحد أم لا، للإجماع.

و منها: ما سبق أيضا من كفاية غسل واحد عن موجبات كثيرة للغسل، لقول أبي جعفر عليه السّلام: «إذا اجتمعت للّه عليك حقوق يجزيك غسل واحد».

و منها: كفاية كفارة واحدة لمن أفطر متعمدا في يوم من شهر رمضان متعددا، سواء كان الإفطار من صنف واحد أم من أصناف متعددة، تخلل التكفير أم لا، و لكن الظاهر خروجه عن المقام تخصصا، لأن بالإفطار الأول يبطل الصوم فلا يبقى موضوع للكفارة بعد ذلك، و وجوب الإمساك في شهر رمضان إنما هو تأدبي لا ربط له بالكفارة، و توجد هناك موارد اخرى مذكورة في الفقه، فراجع.

ص: 116

الثاني: مفهوم الوصف

الوصف إما أن يكون مذكورا في الكلام، أو يستفاد من سياق الجملة - فيكون كالمذكور فيه في المحاورات - و على كل منهما فإما أن يكون الموصوف مذكورا أو لا. و مورد البحث في المقام خصوص ما كان الموصوف مذكورا في الكلام، و أما غيره فإنه أشبه بمفهوم اللقب، و يأتي البحث عنه.

فالأليق بعنوان البحث في المقام أن يقال: الحكم الثابت للمنعوت بنعت ظاهري أو سياقي، هل يدور مدار وجود النعت؟

و كيف كان، فالوصف و الموصوف إما يكون بينهما التساوي، أو العموم المطلق، أو العموم من وجه، و أما التباين فلا يمكن أن يتحقق بينهما، للزوم الاتحاد بين الصفة و الموصوف في الجملة، و لا اتحاد بين المتباينين. و الظاهر خروج الأول عن مورد البحث، لأن مقتضى التساوي بين الموصوف و الصفة، انتفاء الموصوف بانتفاء الوصف قهرا، فتكون القضية من السالبة بانتفاء الموضوع، إلاّ أن يكون مورد نظرهم في المقام إلى الأعم من ثبوت الموضوع خارجا أو فرضا، و لكنه بعيد عن كلماتهم.

كما أنه لا إشكال في خروج القسم الأخير إن كان الافتراق من طرف الموضوع، إذ لا اعتماد فيه للوصف على الموصوف في ظاهر الخطاب، و قد تقدم اعتباره، فما نسب إلى بعض الشافعية من أن قوله صلّى اللّه عليه و آله: «في الغنم السائمة زكاة» يدل على عدم الزكاة في غير السائمة. لا وجه له إلاّ إذا استفيد العلية التامة المنحصرة من السائمة الواردة في الغنم في غير الغنم من سائر الأنعام التي فيها الزكاة أيضا. فيبقى مورد البحث القسم الثاني، و الأخير في ما إذا كان الافتراق من ناحية الوصف، و تكون البقية من اللقب الذي يأتي عدم المفهوم فيه. و منه يظهر الإشكال في ما في الكفاية من تعميمه للجميع، فراجع و تأمل.

ص: 117

ثم إن الوصف إما أن يكون علة تامة منحصرة لثبوت الحكم للموضوع أو يكون مقتضيا له، أو لا اقتضاء له أصلا، فيكون وجوده كعدمه على حدّ سواء، و المفهوم إنما يثبت في القسم الأول فقط دون الأخيرين، كما تقدم في مفهوم الشرط.

إذا عرفت ذلك نقول: إنه لا ريب في ثبوت المفهوم للوصف في بعض الموارد لقرائن خارجية أو داخلية، كما لا ريب في عدمه كذلك في بعض الموارد الأخر، إنما الكلام في بيان القاعدة الكلية التي يصح الاستناد إليها في كل مقام، و ما يمكن أن يستند به عليها وجوه جميعها قابلة للمناقشة:

منها: دلالته على المفهوم وضعا.

و فيه: أنه لو كان كذلك لما وقع الخلاف فيه، و لكانت كتب اللغة مرجعا لبعض ذلك من دون احتياج إلى إتعاب النفس إلى التمسك بالأدلة الخارجية.

و منها: أنه لو لم يدل عليه لكان ذكره لغوا، إذ لا فائدة فيه غير ذلك.

و فيه: وضوح عدم انحصار الفائدة فيه، بل له فوائد كثيرة، كما لا يخفى على من تأمل في المحاورات، فراجع علم المعاني و البيان.

و منها: ما اشتهر من أن الأصل في القيد أن يكون احترازيا، و أن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فيثبت المفهوم لا محالة.

و فيه: أنه لا أصل لهذا الأصل إلاّ في الحدود الحقيقية و التعريفات الواقعية، و هي كلها خارجة عن مورد الكلام.

و قضية تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية ليست من القواعد المعتبرة، مع أن الإشعار بالعلية أعم من العلية التامة المنحصرة التي هي مناط تحقق المفهوم، كما مر.

و منها: أن من لزوم حمل المطلق على المقيد في المحاورات العرفية يستكشف المفهوم للوصف أيضا.

ص: 118

و فيه: أن مناط حمل المطلق على المقيد إحراز وحدة الحكم فيهما، و تقديم النص - الذي هو المقيد - على الظاهر - الذي هو المطلق - و المناط في المقام إحراز العلية التامة المنحصرة للوصف، فلا ربط لأحدهما بالآخر.

فليست في البين قاعدة كلية تدل على ثبوت المفهوم للوصف، بل لا بد في ثبوته من دلالة القرائن الخاصة المعتبرة عليه.

و قد يستدل على عدم المفهوم للوصف بقوله تعالى: وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فإنه لو ثبت المفهوم لدلت الآية على حلية الربيبة إذا لم تكن في الحجر، مع أنها محرّمة أيضا.

و فيه: أن ذلك لأجل الأدلة الخاصة الدالة على حرمة الربيبة مطلقا و لو لم تكن في الحجر، مع أن عدم دلالة الوصف على المفهوم أحيانا لا يدل على عدم دلالته عليه بالكلية، كما هو واضح.

ص: 119

الثالث: مفهوم الغاية

البحث في الغاية من جهتين:

الاولى: في دخولها في المغيّا و عدمه، و التحقيق أن لها معنيين: فتارة يراد بها آخر الشيء باعتبار وجوده المختص به، كقولك: مساحة هذا الشيء ذراع.

و هو داخل في المغيّا، لأن كل شيء عبارة عن المحدود بحد خاص و شكل مخصوص.

و اخرى يراد بها ما ينتهي عنده الشيء باعتبار الحكم لا باعتبار الموضوع، كقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. و حينئذ فيمكن أن يقال بانتزاع الغاية من أول جزء من الليل فتكون داخلة حينئذ، أو انتزاعها من آخر جزء من النهار فتكون خارجة لا محالة، و يختلف ذلك باختلاف الموارد، و المتبع هو القرائن المعتبرة و مع عدمها فالمرجع هو الاستصحاب، فتكون النتيجة دخولها في المغيا.

و المعروف بين أهل الأدب أن كلمة (حتى) و (إلى) تدلان على دخول الغاية في المغيّا ما لم تكن قرينة على الخلاف، و لكن اعتبار كلامهم أول الدعوى إلا مع ثبوت ذلك في المحاورات المعتبرة.

الثانية: أنها هل تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية؟ و التحقيق أنها إن كانت قيدا للموضوع تكون من الوصف حينئذ، و قد تقدم عدم المفهوم له. و إن كانت قيدا للحكم فتدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية قهرا، و إلا فلا تكون غاية و هو خلف، مثل قوله عليه السّلام: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، و قوله عليه السّلام: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام» فلا وجه للطهارة و الحلّية بعد العلم بالقذارة و الحرمة. و يمكن أن يعد هذا من الدلالة المنطوقية لا المفهومية، و إن شك في كونها قيدا للحكم أو للموضوع فالمرجع الاستصحاب مع تحقق شرائطه و إلاّ فالبراءة، فتخرج حينئذ عن الدلالة منطوقية كانت أو مفهومية.

ص: 120

الرابع: مفهوم الاستثناء

مقتضى المحاورات المتعارفة في كل لغة أن الاستثناء من الإيجاب سلب؛ و من السلب إيجاب، و أنه يدل على الحصر، و أن الحكم المذكور في القضية مختص بالمستثنى منه، و المشهور أن انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى إنما هو بالمفهوم، فإن أرادوا ذلك في الجملة و في بعض الموارد الخاصة لمناسبات مخصوصة فلا إشكال فيه، و إلا فالظاهر أنه في مثل (ليس) و (لا يكون) بالمنطوق لا بالمفهوم، لتبادر ذلك منهما في المحاورات، و لا يبعد ذلك في مثل (إلاّ) أيضا إذا كان من حدود الحكم و متعلقاته.

و أما إذا كان من قيود الموضوع فمرجعه إلى الوصف، و تقدم عدم المفهوم له، فيصح أن يقال: إن الأدوات الاستثنائية تدل على انتفاء حكم ما قبلها عما بعدها بالمنطوق لا المفهوم، إلا في بعض الموارد لقرائن خاصة.

و أما ما قيل: من أنها لو دلت على المفهوم لكان قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ بطهور» دالا على كون الطهور صلاة و لو لم تتحقق سائر الأجزاء و الشرائط.

فهو باطل قطعا، لأن مثل هذه التعبيرات إنما يقال عند بيان اعتبار ما بعد إلاّ لما قبلها تحققا أو كمالا، فيقال: لا صلاة إلا بطهور، و يكون عبارة اخرى عن قوله عليه السّلام: «الصلاة ثلث طهور، و ثلث ركوع، و ثلث سجود». و كما يقال: لا علم إلاّ بعمل، و لا إيمان إلا بصبر.

كما أن قبول إسلام من قال: لا إله إلا اللّه، لا يدل على ثبوت المفهوم للاستثناء على نحو الكلية، لما تقدم من احتمال كون الدلالة فيها أيضا بالمنطوق مثل (ليس) و (لا يكون)، و على فرض كونها بالمفهوم فهي لقرينة خاصة، و لا

ص: 121

تثبت بها الكلية.

و قد يقال: بأن المقصود من كلمة التوحيد الإقرار بوجود اللّه تعالى و تحقق فعليته من كل جهة، و نفي الشريك له تعالى. فإن قدّر خبر (لا) النافية ممكن، يكون المعنى: لا إله ممكن إلا اللّه، فهو ممكن و يثبت الإمكان بالنسبة إليه تعالى، و هو أعم من الوجود الفعلي، إذ لا يلزم أن يكون كل ممكن موجودا. و إن قدّر موجود فيكون المعنى: لا إله موجود إلا اللّه فهو موجود، فهو و إن دلّ على الفعلية و الوجود و لكن لا يدل على امتناع الشريك له تعالى، لأن نفي الوجود أعم من الامتناع إذ ليس كل معدوم ممتنعا.

نقول.. أولا: أن كلمة (لا) تامة لا تحتاج إلى الخبر مثل ليس التامة، فالمعنى أنه لا تحقق للمعبود بالذات إلاّ اللّه تعالى، و هو ظاهر في وجوده و امتناع معبود آخر غيره عزّ و جلّ.

و ثانيا: يصح تقدير الخبر لفظ الممكن و لا يلزم المحذور، لما ثبت في محله من أن كل ما كان من المعاني الكمالية ممكنا بالنسبة إليه تعالى و لم يكن مستلزما للنقص، فهو واجب بالنسبة إليه، فقولك: لا إله ممكن إلا اللّه فهو ممكن، أي واجب، كما برهن عليه. قال الحكيم السبزواري:

إذ الوجود كان واجبا فهو *** و مع الإمكان قد استلزمه

و قس عليه كلما ليس امتنع بلا تجشم على الكون وقع

و ثالثا: يصح تقدير الخبر لفظ الموجود، و يكون نفي الوجود عن جنس الواجب بالذات أو المستحق للعبادة ذاتا ملازما لامتناعه، لأنه لو كان ممكنا لتحقق.

ثم إن لفظ (إنما) يدل على الحصر و الاختصاص، لتبادر ذلك منه عند عرف أهل المحاورة ما لم تكن قرينة على الخلاف.

و كذا لفظ (بل) الإضرابية المستعملة في الجملة المنفية مع كون الإضراب

ص: 122

حقيقيا التفاتيا، فإنه يدل على الاختصاص أيضا، لتبادره منه. و أما لو كان لبيان السهو و الغفلة و الغلط فلا يدل عليه، كما لا يدل عليه سائر أقسام (بل) المذكورة في الكتب الأدبية إلا مع قرينة معتبرة دالة عليه.

و قد يعدّ مما يدلّ على الحصر تعريف المسند إليه باللام، و تقديم ما حقه التأخير، فإن اريد أنها لأجل القرينة الخاصة - حالية كانت أو مقالية - فلا إشكال فيه. و إن اريد أنها وضعية فهي ممنوعة، لعدم التبادر كما لا يخفى.

ص: 123

الخامس و السادس: مفهوم اللقب و العدد

و الأول ما كان طرفا للنسبة الكلامية في الجملة، مسندا كان، أو مسندا إليه، أو من متعلقاتهما. و حينئذ فإن كان وصفا يصير مورد بحث المفهوم من جهتين، بل يمكن أن يصير مورد البحث من جهات لامور أخر أيضا.

و على أي تقدير مقتضى الأصل و المحاورات العرفية عدم اعتبار المفهوم للقب، فإن قول: زيد قائم، لا يدل على نفي القعود عنه - نعم حين القيام لا يصدق عليه القعود فعلا من جهة امتناع اجتماع الضدين، و لا ربط له بالمفهوم - كما لا يدل على نفي القيام عن عمرو بوجه من الدلالات، و قد ارتكز في النفوس أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عما عداه و نفي ما عداه عنه و عن غيره.

و أما العدد..

فتارة: يكون محدودا بالنسبة إلى طرفي القلة و الكثرة، كركعات الظهر مثلا.

و اخرى: بالنسبة إلى طرف القلة فقط، كالصدقات الواجبة المحدودة بحدّ خاص معين، فلا يجزي الأقل منه.

و ثالثة: يكون محدودا بالنسبة إلى طرف الزيادة، كنافلة الظهر حيث لا تجوز الزيادة على الثمانية و يجزي الأقل منها.

و رابعة: يكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الطرفين.

و الكل ليس من المفهوم في شيء، و المنساق عرفا من العدد التحديد بالنسبة إلى الأقل إلا مع القرينة على الخلاف.

ص: 124

القسم الرابع: العام و الخاص

تعريف العام و الخاص

العام و الخاص من المعاني المرتكزة إجمالا في الأذهان في كل لغة و محاورة. و العموم عند العرف متقوّم بالشمول و السريان، بخلاف الخصوص الذي هو في مقابله، و منه يظهر أن لفظ (عشرة) مثلا ليس بعام بالنسبة إلى الآحاد التي تكون تحتها، لعدم سريان هذا اللفظ و عدم إطلاقه بالنسبة إليها. نعم، هو عام بالنسبة إلى عامة العشرات فيشمل كل عشرة.

و هو وضعي، أو بمقدمات الحكمة، و المقصود بالذكر في المقام هو الأول، و يأتي الأخير في المطلق و المقيد إن شاء اللّه تعالى.

و قد عرّف العام بتعاريف كلها مخدوشة ما لم ترجع إلى ما هو المركوز في الأذهان، مضافا إلى أنه لم يقع لفظا العام و الخاص موردي حكم من الأحكام حتى يحتاج إلى التعريف و التزييف.

نعم الألفاظ الدالة على العموم و الخصوص كثيرة الدوران في الأدلة و هي معلومة لكل أحد، سواء كان عارفا بمعنى العام و الخاص أم كان جاهلا بهما.

و لا يخفى أن العام و الخاص من الامور الإضافية، فرب عام من جهة يكون خاصا من جهة اخرى، كما أن رب خاص من جهة يكون عاما من جهة اخرى، و قد يستعمل كل منهما في الآخر بالعناية إذا استحسنه الذوق السليم.

ص: 125

أقسام العموم:

و العموم إما استغراقي، أي شامل لكل ما يصلح أن يكون فردا له، و هو كثير في الكتاب و السنّة، كقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و مثل: (لا تشرب الخمر) أو بدلي، أي أن مدلوله فرد واحد لكن على البدل، فالعموم في البدلية الشاملة لكل فرد يصلح أن يكون بدلا لا في الفرد من حيث هو، كما في القسم الأول. و هو أيضا كثير في الشرع.

أو مجموعي، أي يلحظ جميع الأفراد عنوانا واحدا للعام و كأنه ليس له إلاّ فرد واحد و هو المجموع من حيث المجموع، كغسل الجنابة، فإن جميع البدن بتمام أعضائه جعل شيئا واحدا بحيث لو لم يغسل موضع رأس إبرة لبطل الغسل.

و لازم الأول تحقق الإطاعة بامتثال كل فرد، و العصيان بترك فرد آخر، فيصح أن تتحقق في عام واحد الإطاعة و العصيان معا، بل إطاعات عصيانات.

و لازم الثاني تحقق الإطاعة بإتيان فرد ما، و عدم تحقق العصيان إلا بترك الجميع.

و أما الأخير فهو على عكس الثاني، فلا تتحقق الإطاعة فيه إلا بإتيان الجميع، و يتحقق العصيان بترك فرد ما. و ليس في القسمين الأخيرين إلا إطاعة واحدة و عصيان كذلك بخلاف القسم الأول، إذ يصح تعدد الإطاعة و العصيان فيه، كما هو واضح.

ص: 126

ألفاظ العموم:

قد شاع في كل لغة ألفاظ للعموم؛ و اخرى للخصوص، و ثالثة تستعمل تارة في الأول و اخرى في الأخير لقرائن خارجية أو داخلية، و الألفاظ المتداولة في العموم خمسة: لفظ (كل) و ما بمعناه، و النكرة في سياق النفي أو النهي، و المحلى باللام، جمعا أو مفردا.

و اختلف في أن هذه الدلالة وضعية أو إطلاقية، أو أن الاولى بالوضع و البقية بالإطلاق. و الظاهر هو الأخير، لظهور هذه الألفاظ الخمسة في العموم، و الظهور حجة معتبرة عند العقلاء وضعيا كان أو إطلاقيا.

نعم، قد يقال إن الظهور الوضعي أقوى من الإطلاقي فيقدّم عليه مع التعارض، و لكنه دعوى بلا شاهد، اللهم إلا أن يصير ذلك موجبا لأظهرية ما يستند إلى الوضع دون غيره و لا ريب في تقديمه عليه حينئذ، لتقدم الأظهر على الظاهر في المحاورات، كتقدم النص عليهما كذلك.

استعمال العام في المخصص:

لا ريب في ظهور كل عام في العموم، و الظاهر حجة ما لم تكن قرينة على الخلاف، و المخصص من القرينة على الخلاف، فيكون العام ظاهرا في العموم أو الحجة في غير مورد التخصيص على ما هو المشهور بين الأعلام، بلا فرق فيه بين المخصص المتصل و المنفصل، و لا إشكال فيه بناء على كون العام المخصص حقيقة في العموم بعد التخصيص، كما هو التحقيق. و أما بناء على كونه مجازا بدعوى أنه من قبيل اللفظ الموضوع للكل المستعمل في الجزء، فكذلك أيضا.

أما أولا: فلأن دعوى المجازية باطلة، لتقوّم العموم بالإرسال و السريان

ص: 127

و عدم تحديده بحدّ معين و مرتبة خاصة، فمهما تحقق الإرسال و السريان يتحقق العموم لا محالة - وسعت دائرته أو ضاقت، كثرت الأفراد أو قلّت - فهو من هذه الجهة كاسم الجنس الصادق على القليل و الكثير صدقا حقيقيا مع استفادة القلّة و الكثرة من القرائن الخارجية، و لكن القلة و الكثرة ملحوظتان في العموم من جهة السريان و الشمول، و في اسم الجنس من جهة الذات المهملة المبهمة، فهو حقيقة في السريان، سواء كثرت الأفراد لعدم التخصيص، أو قلّت بوجود المخصص، فيكون ظاهرا في العموم و حجة فيه، ما لم تكن حجة أقوى على الخلاف.

و منه يظهر أنه ليس من قبيل اللفظ الموضوع للكل المستعمل في الجزء، لأن الكل محدود بحدّ خاص بخلاف السريان، فإنه غير محدود بحدّ خاص، كما تقدم.

و ثانيا: على فرض المجازية يكون حجة في الباقي بعد التخصيص لوجود المقتضي - و هو الظهور اللفظي - و فقد المانع، لأصالة عدم مخصص آخر، فإنه لا فرق في حجية الظهور بين كونه مستندا إلى الوضع أو إلى سياق اللفظ و لو كان مجازا.

و ما ذكره في الكفاية من أن المقتضي هو الدلالة على تمام الأفراد، و مع التخصيص لا وجه لثبوت المقتضي.

باطل: لأن المقتضي إنما هو ذات الدلالة على نحو الانبساط، المنطبقة على التمام و على ما في ضمنه.

هذا مع أن استعمال العام المخصص في تمام الأفراد لا بأس به إن كان في البين غرض صحيح من التفنن في البيان، أو تشريع القانون الكلي أو نحو ذلك، فيكون العام مستعملا في تمام الأفراد بالإرادة الاستعمالية إلا أن الإرادة الجدية تعلقت ببعضها، و الظاهر أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية لهذا البحث. فلا وجه للإطالة بأكثر من ذلك.

ص: 128

أقسام إجمال المخصص و أحكامها

العام و الخاص إما مبينان من كل جهة، أو مجملان كذلك، أو يكون العام مجملا و الخاص مبينا، أو بالعكس.

و لا إشكال في تمامية الحجة في الأول، كما لا ريب في عدمها في الثاني، لفرض الإجمال فيهما، و لا حجية في المجمل.

و كذلك الثالث، لأن الخاص كالقرينة للعام و المتمم لفائدته، و مع إجمال ذي القرينة لا أثر لكون القرينة واضحا و مبينا.

و أما الأخير فعمدة القول فيه: أن الخاص إما متصل أو منفصل، و الإجمال في كل منهما إما مفهومي أو مصداقي. و منشأ الإجمال إما للتردد بين المتباينين، أو بين الأقل و الأكثر، فهذه أقسام ثمانية.

و يسري الإجمال من الخاص المتصل المجمل إلى العام بأقسامه الأربعة، لأنه من القرينة المحفوفة بالكلام، و إجمال القرينة يسري إلى ذي القرينة في المحاورات العرفية، فلا حجية للعام في محتملات التخصيص، بل و لا ظهور له فيها أيضا، لفرض عروض الإجمال، و جريان بناء العقلاء على عدم التمسك به فيها حينئذ في محاوراتهم و احتجاجاتهم في الموارد المشكوك في دخولها تحت العام، و الأخذ بالمتيقن بما هو داخل فيه ليس من باب ظهور العام بل من جهة اليقين به، فلا يكون العام و لا الخاص حجة في الفرد المشكوك، لفرض الإجمال فلا بد فيه من الرجوع إلى دليل آخر، و مع عدمه فإلى الاصول العملية - موضوعية كانت أو حكمية - و كذا في ما يأتي من القسمين من الخاص المنفصل، حيث لا يجوز فيهما التمسك بالعام فيرجع فيهما إلى دليل آخر أو أصل، بل و كذا في ما يأتي من الشبهات المصداقية، حيث لا يصح التمسك بالعام فيها.

ص: 129

و أما الخاص المنفصل فإن كان إجماله للتردد بين المتباينين مفهوما أو مصداقا فلا حجية للعام في محتمل التخصيص أيضا، للعلم الإجمالي بورود التخصيص في الجملة، و عدم وجود حجة معتبرة على التعين، و لا تجري أصالة عدم التخصيص، لمكان العلم الإجمالي.

نعم، لا إشكال في بقاء ظهور العام في العموم، لفرض عدم كون المخصص المجمل متصلا بالكلام، و عدم احتفافه بما يوجب الإجمال، و لا ملازمة بين بقاء الظهور و حجيته، إذ ليس كل ظاهر بحجة، كما في موارد العلم بإرادة خلاف الظاهر تفصيلا أو إجمالا.

و كذا ليس كل حجة من الظاهر، كما في حجية الأدلة اللبية، فيكون بينهما العموم من وجه، كما هو واضح.

و أما إذا كان الإجمال لأجل تردده بين الأقل و الأكثر مفهوما، فالعام حجة في محتمل التخصيص - و هو الأكثر - لاستقرار ظهوره في العموم و عدم المنافي له إلا في ما يكون الخاص حجة فيه - و هو الأقل - فقط، فيرجع في الأكثر إلى أصالة عدم التخصيص. فالمقتضي لحجية العام في الأكثر موجود - و هو الظهور - و المانع عنه مفقود - و لو بالأصل -.

و أما إذا كان إجماله لأجل التردد بين الأقل و الأكثر مصداقا، فهو النزاع المعروف بين العلماء - أنه هل يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؟ - فذهب جمع إلى الأول، و نسب الأخير إلى المشهور، و استدل للأول بوجوه:

منها: وجود المقتضي لحجية العام في المشكوك فيه و هو الظهور، و فقد المانع و لو بالأصل، فتتم حجية العام فيه لا محالة.

و فيه: أن الظهور مسلّم و لكن فقد المانع - و هو أصالة عدم التخصيص أول الكلام، لأنها من الاصول المحاورية العقلائية، و لم يحرز بناؤهم على جريانها في المقام و إلا لما وقع الخلاف بين الأعلام، و يكفي الشك في الجريان

ص: 130

بعد أن كان المدرك هو السيرة التي لا بد و أن يقتصر فيها على المتيقن، هذا مضافا إلى أنه بعد العلم بورود المخصص المبين مفهوما و تمامية الحجة بالنسبة إلى التخصيص من طرف المولى، لا وجه لجريان هذا الأصل و لو كان مدركه إطلاق أخبار الاستصحاب، إذ الأصل يجري فيما لا حجة فيه في البين، دون ما ثبتت فيه الحجة، و هذا هو الفارق بين المقام و بين ما تقدم من تردد المخصص من حيث المفهوم بين الأقل و الأكثر، حيث قلنا بصحة الرجوع إلى أصالة عدم التخصيص هناك في الأكثر، و ذلك لعدم تمامية حجة أقوى على خلاف العام هناك بالنسبة إلى الأكثر لفرض إجمال المفهوم، فيرجع لا محالة إلى الأصل، بخلاف المقام الذي تمت الحجة الأقوى على خلاف العام من طرف المولى فلم يبق موضوع للرجوع إلى الأصل.

إن قيل: بعد الاعتراف بثبوت حجة أقوى على خلاف العام فليكن الفرد المردد داخلا تحت الخاص الذي هو الحجة الأقوى.

يقال: لا ملازمة بين كونه حجة أقوى بحسب المفهوم بالنسبة إلى العام في الجملة، و بين كونه حجة في الفرد المردد بين كونه داخلا تحته أيضا، بل مقتضى الأصل عدم هذه الملازمة.

هذا إذا كان المراد بأصالة عدم التخصيص الأصل المعروف. و أما إذا كان المراد الأصل الموضوعي فهو صحيح في المقام، و يأتي الكلام فيه.

و القول: بأن أصالة عدم التخصيص معارضة بأصالة عدم حجية العام في المشكوك فيه.

موهون: باختلاف الرتبة بينهما، لأنه بعد جريان أصالة عدم التخصيص لا يبقى موضوع لجريان أصالة عدم الحجية، كما لا يخفى.

و منها: أن مقتضى إطلاق العام بإطلاقه الأحوالي شموله للفرد المردد أيضا، فيكون العام مبينا للحكم الواقعي بالنسبة إلى أفراده الواقعية، و للحكم

ص: 131

الظاهري بالنسبة إلى الأفراد المشكوك فيها.

و فيه: أن المنساق من العمومات التكفل للأحكام الواقعية فقط، إلا أن يدل دليل من الخارج على أنها متكلفة للحكمين، أو للحكم الظاهري فقط.

و منها: أن حجية العام في المقام أقوى و أظهر من الخاص. و لكن فساد هذا الوجه غني عن البيان.

و من ذلك يظهر أن ما نسب إلى المشهور هو الأقوى، لأن الفرد المردد مشكوك في دخوله تحت كل من العام و الخاص، فيشك في حجية كل واحد منهما بالنسبة إليه، و الشك في الحجية يكفي في عدم الحجية.

و لا ينفع فيها دخوله تحت ظهور العام، لما تقدم من عدم الملازمة بين الظهور و الحجية، و يقتضي ذلك مرتكز المتعارف أيضا، فلا يبادرون إلى الحكم بدخول الفرد المردد تحت العام إلا بقرينة خارجية تدل عليه، مع أن فعلية الأحكام متوقفة على إحراز موضوعاتها، و مع التردد فيها لا وجه لفعليتها.

و حينئذ يرجع في حكم هذا الفرد المشكوك في دخوله تحت كل واحد منهما إلى الاصول الموضوعية، و مع عدمها فإلى الحكمية إن لم يكن دليل خارجي على تعين حكمه في البين.

و أما ما قيل: من أن العام بعد التخصيص يكون كالموصوف و الوصف، فكما لا يصح التمسك بدليل الموصوف مع عدم إحراز الوصف فالمقام مثله أيضا.

فهو حسن ثبوتا و لا كلية فيه إثباتا.

و لا فرق في ما ذكرناه بين ما إذا كان الإجمال من حيث المصداق في المخصص المنفصل اللفظي أو اللبي، لأن المناط كله تردد الفرد بين الدخول و الخروج تحت كل من العام و المخصص، و في مثله لا يبادر أهل المحاورة إلى الجزم بدخوله تحت أحدهما إلا بقرينة اخرى.

ص: 132

و عن صاحب الكفاية التفصيل بينهما، فوافق المشهور في المخصص اللفظي، و أما في اللبّي فذهب قدّس سرّه إلى حجية العام في الفرد المردد، و ادعى بناء العقلاء عليه أيضا.

و حاصل ما ذكره في وجه الفرق: أن في المخصص اللفظي قد ورد ظهوران: ظاهر العام، و ظاهر الخاص، و تردد فرد بين الدخول في كل واحد منهما و الخروج، فلا يكون كل واحد منهما حجة فيه. و أما في اللّبّي فليس في البين إلا ظاهر واحد و هو ظهور العام، فيكون ظهوره متبعا ما لم يقطع بخروج فرد عنه، و حيث لا قطع بخروج الفرد المردد، يكون ظهور العام متبعا لا محالة.

و يرد عليه.. أولا: أن ما ادعاه قدّس سرّه من بناء العقلاء على التمسك بالعام في الفرد المردد مع المخصص اللبي دون اللفظي، دعوى بلا شاهد، بل هو على خلافها.

و ثانيا: أن مناط عدم جواز التمسك بالعام في الفرد المردد هو مجرد التردد بين الدخول و الخروج، و لا ريب في وجود هذا المناط فيهما.

نعم، للتردد مراتب متفاوتة لا بأس بالتمسك بالعام في بعض مراتبه حتى في الدليل اللفظي أيضا، و إن لم يصح في بعض مراتبه الاخرى، و بذلك يمكن جعل النزاع لفظيا.

و الحاصل: أنه لا يصح الرجوع إلى دليل العام في جميع الأقسام الثمانية التي تقدمت الإشارة إليها، إلا في قسم واحد، و هو ما إذا كان المخصص منفصلا و كان مجملا مفهوما لتردد مفهومه بين الأقل و الأكثر، فيرجع في المشكوك فيه إلى العام، و لا يصح الرجوع إلى العام في بقية الأقسام السبعة، كما لا يصح التمسك بالخاص في جميع الأقسام الثمانية، لسقوط اعتباره في الفرد المردد عند أهل المحاورة.

ص: 133

ختام فيه امور:

الأمر الأول: اذا سلب عنوان الخاص عن المفرد المردد

لو صح سلب عنوان الخاص عن الفرد المردد بأمارة، أو قاعدة، أو أصل، يشمله العام بلا كلام، لوجود المقتضي حينئذ - و هو ظهور العام في الشمول - و فقد المانع.

و بعبارة اخرى: العام يشمل جميع ما يمكن أن يكون فردا له، سواء كانت الفردية وجدانية أم ثبتت بالأمارة، أو بالقرينة المعتبرة، داخلية كانت أو خارجية، أم ثبتت بالأصل، موضوعيا كان أو حكميا، فإذا قيل: أكرم العلماء، و لا تكرم الفسّاق. و تردد عالم بين كونه فاسقا أو غير فاسق، و قامت البينة على عدالته، أو جرت قاعدة الصحة في ما صدر منه، أو جرى استصحاب العدالة في حقه، فلا ريب في وجوب إكرامه، بل يصح نفي عنوان الخاص بالأصل الأزلي أيضا.

فإذا ورد أن كل امرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلا إذا كانت امرأة قرشية فتراها إلى ستين، و ترددت امرأة بين كونها قرشية أو غير قرشية، فبأصالة عدم انتسابها إلى قريش ينتفي انتسابها إلى قريش، فيشملها العام قهرا، إذ المرأة و انتسابها إلى قريش كانتا معدومتين أزلا، و انتقض العدم بالنسبة إلى أصل وجود المرأة حسا دون الانتساب، فيستصحب العدم بالنسبة إليه.

و قد يقال - أولا: من أن نفس العدم من حيث هو لا أثر له، و ما له أثر هو عدم انتساب هذه المرأة بالخصوص، فما هو المعلوم سابقا لا أثر له، و ما له الأثر غير معلوم سابقا، فكيف يجري الأصل.

و ثانيا: أنه معارض باستصحاب عدم الانتساب إلى غير قريش، فيسقطان بالمعارضة.

و ثالثا: أن جريان الأصل في الأعدام الأزلية خلاف العرف المبني عليه الأدلة.

ص: 134

و يمكن المناقشة فيه..

أما الأول: فلأن المستصحب ليس ذات العدم المطلق، بل الصحة الخاصة منه المقترنة مع هذه المرأة واقعا.

و أما الثاني: فلأنه لا وجه لجريان أصالة عدم الانتساب بالنسبة إلى غير القرشي، لشمول العموم له، فإن مورد العام كل امرأة لم تكن منسوبة إلى قريش و لو كان عدم الانتساب لأجل الأصل المعتبر، فيشمل العام كل امرأة صح نفي القرشية عنها بأي وجه أمكن.

نعم، لو صار العام مجملا لجهة من الجهات لا يصح التمسك حينئذ، فيجري الأصل فيهما و يتساقطان بالتعارض. و أما الأخير فلا يضر بعد شمول إطلاق أدلة الاستصحاب له.

الأمر الثاني: دفع ما يورد من الاشكال على مذهب اليه مشهور من القول بالضمان فى ما اذا ترددت اليد بين كونها أمانية أو ضمانية

نسب إلى المشهور القول بالضمان في ما إذا ترددت اليد بين كونها أمانية، أو ضمانية مع أنه لا ضمان في الأمانية إلا مع ثبوت التعدي أو التفريط، فيوهم ذلك ذهابهم إلى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. و يمكن دفع التوهم بأن الضمان في نظائر المقام لأجل أصالة احترام ملك الغير التي هي من الاصول النظامية المعتبرة، و ليس لأجل العموم حتى يكون من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، و التفصيل يطلب من الفقه.

الأمر الثالث: اذا علم بخروج فرد عن حكم العام و شك فى انه لاجل التخصص أو التخصيص جريان الاصل و ردّه

لو علم بخروج فرد عن حكم العام و لم يعلم أنه لأجل التخصيص أو التخصص، فبأصالة عدم التخصيص لا يثبت الأخير، لأنها إنما تكون معتبرة في مفادها المطابقي دون الملزومات، لعدم الدليل على اعتبارها بالنسبة إليها من سيرة أو نحوها إلا إذا كان بينهما تلازم عرفي. فلو قيل: أكرم العلماء، و علم بعدم وجوب إكرام شخص خاص، لا يثبت جهله بأصالة عدم التخصيص بالنسبة إليه، و العرف لا يساعد عليه أيضا.

الأمر الرابع: التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص الكلام فى ذلك

كل عام أو مطلق يكون في معرض التخصيص أو التقييد لا

ص: 135

يصح العمل به قبل الفحص، لعدم استقرار حجيته قبله، و المعتبر من الحجة الحجية المستقرة دون الشأنية المحضة، و الشك في الحجية قبله يكفي في عدم الحجية.

و يمكن بيان ذلك بصورة الشكل الأول الذي هو بديهي الإنتاج: بأن ظاهر العام و المطلق قبل الفحص عن المخصص و المقيد في معرض الزوال، و كل ظاهر يكون في معرض الزوال لا اعتبار به، فظاهر العام و المطلق قبل الفحص عن المخصص و المقيد لا اعتبار به، و إذا سقط عن المعرضية تستقر الحجية و تصير فعلية.

و منه يعلم مقدار الفحص، إذ ليس له حدّ معين، و المناط كله تبدل شأنية الحجية إلى الفعلية و استقرارها و خروج العام أو المطلق عن المعرضية، و يختلف ذلك باختلاف العمومات و المطلقات.

و من ذلك يعلم أنه لا يجب الفحص في ما لا يكون معرضا له و كان احتمال التخصيص و التقييد فيه مما لا يعتني به العقلاء، فيجب العمل بظاهر العام و المطلق حينئذ، و لكن هذا النحو من العام و المطلق قليل جدا.

ثم إنه لا يجب في الفحص المباشرة فتصح الاستنابة أيضا، بل يصح الاعتماد على قول الخبير الأمين، هذا حال الاصول اللفظية، كأصالة العموم و الإطلاق.

و كذا الحال في الاصول العملية، كأصالة البراءة، و التخيير و الاستصحاب، فإن تأخر رتبة اعتبارها عن الأدلة يقتضي أن لا تكون معتبرة إلاّ بعد الفحص و اليأس عنها، و إلا فلا اعتبار لها حينئذ.

و الفرق بين الفحص في الاصول اللفظية و بينه في الاصول العلمية أنه في الاولى لدفع المانع بعد وجود المقتضي، فإن المقتضي للحجية - و هو الظهور - موجود فيتفحص لدفع احتمال المانع، و أما في الاخرى فإنما هو لأجل إثبات

ص: 136

أصل المقتضي للحجية، إذ لا مقتضي لها في الاصول العملية قبله، لأن الشك بالنسبة إلى الاعتبار لا اقتضاء محض، بلا فرق بين الاصول العقلية و النقلية، و التفصيل يطلب في محله.

هذا، و لو عمل بالاصول اللفظية أو العملية قبل الفحص، فإن طابق عمله للواقع و كان جامعا للشرائط يصح، و إلاّ يجب عليه الإعادة أو القضاء، و الوجه في كل منهما معلوم لا يحتاج إلى البيان.

الخطابات الشفاهية

اختلف الاصوليون في أن الخطابات في الشرع - مثل قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... الذي ورد في القرآن في أكثر من ثمانين موردا - هل تختص بالحاضر في مجلس الخطاب، أو يعمه و الغائبين، بل المعدومين أيضا؟ و لا بد أن يعلم أولا أن أحكام الشريعة المقدسة الختمية ثابتة إلى يوم القيامة للجميع بضرورة الدين و إجماع جميع فرق المسلمين، و إنما البحث في شمول الخطابات الشفاهية للغائبين و المعدومين أيضا، و هذه الجهة من البحث مستغنى عنها بعد الإجماع و الضرورة، و حديث: «حلال محمّد صلّى اللّه عليه و آله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة».

ثم إن الكلام يقع من نواح ثلاث:

الاولى: في أصل جعل القانون، الظاهر أنه لا وقع لهذا النزاع بالنسبة إلى مرتبة أصل جعل القانون ثبوتا من حيث هو، إذ لا يعتبر فيه وجود مخاطب حين الجعل خصوصا في القوانين الأبدية، كما جعلت في الشريعة الختمية، فيصدق جعل القانون على ما كتب في اللوح المحفوظ، أو ما انزل على قلب نبينا صلّى اللّه عليه و آله و لو لم يطلع عليه أحد، و كذا في مقام إظهاره و إثباته، إذ يكفي فيه إظهاره بداعي

ص: 137

إتمام الحجة و تمامية البيان على المكلّف، سواء كان موجودا أم غير موجود، و سواء كان الإظهار على نحو الجملة الخبرية أم الإنشائية، أم الكتابة أم غير ذلك مما يمكن به الإظهار و الإعلان، و لو فرض أن توجيه الخطاب فيه يكون إلى شخص أو جمع فهو من باب المرآتية لكل من يصلح لذلك - غائبا كان، أو معدوما - لغرض أن المتكلم في مقام جعل القانون و إنما اختار الكيفية الخاصة من البيان لدواع خاصة و جهات مخصوصة، مثل قوله تعالى: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

و يدل على ما ذكرنا العرف، و بناء العقلاء، و أصالة عدم اعتبار شيء في الجعل، من حيث أنه جعل القانون و بيانه و إظهاره من طرف الجاعل.

و ما ورد من تعدد نزول القرآن و لا ريب في اشتماله على القوانين الدنيوية و الاخروية، فتارة نزل على اللوح المحفوظ، و اخرى على البيت المعمور، و ثالثة نزل في مكة أو المدينة، متفرّقا بحسب الوقائع و المناسبات، و في جميع أطوار نزوله هو قانون أبدي. هذا في مرتبة أصل جعل القانون.

الثانية: من ناحية الخطاب من حيث أنه خطاب، فالخطاب هو إبراز المراد في الخارج بما اشتمل على أدوات الخطاب، سواء كان ذلك بداعي التفهيم و التفهم - كما هو الغالب فيه - أو بداع آخر، كجعل القانون، أو التحسّر، أو التحزّن، أو التعشق، أو غير ذلك من الدواعي الصحيحة الموجودة في الكلمات الفصيحة نظما و نثرا، و يشهد له خطابات اللّه تبارك و تعالى مع الجمادات، كقوله تعالى: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي. و قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ. فيصح الخطاب بداعي جعل القانون بالنسبة إلى الغائب و المعدوم، كما يأتي لا حقا، فلا أثر لهذا البحث من هذه الجهة.

ثم إن حضور المخاطب لدى المتكلم بما اشتمل على أدوات الخطاب

ص: 138

على أنحاء..

فتارة: هو الحضور الواقعي الإحاطي من كل جهة، كحضور الأشياء لدى اللّه عزّ و جل.

و أخرى: هو الحضور الاعتقادي، كحضور المعبود لدى العابد، و هو في المعبود الواقعي حضور واقعي أيضا.

و ثالثة: خارجي شخصي، كقولك لغريمك: أعطني ما أطلبك.

و رابعة: خارجي مرآتي، كقولك: يا بني صلّ، و أطع اللّه تعالى و خالف الشيطان، و نحو ذلك.

و خامسة: فرضي اعتباري، كتكلم العاشق مع المعشوق في غيبته، و كتكلم من يتمرن درسا يريد أن يدرّسه بعد ذلك في مجمع من الطلاب.

فيكفي في صحة التخاطب مطلق الحضور بأي وجه صحيح، و يمكن أن تكون الخطابات الشرعية بلحاظ حضور الامة حضورا اعتباريا لدى الصادع بالشريعة المقدسة، فلا ثمرة لهذا البحث من هذه الجهة أيضا.

الثالثة: من ناحية البعث و الزجر، فالبعث و الزجر إتمام للبيان من طرف المولى لأجل إمكان الانبعاث من البعث، و الانزجار من الزجر. و لا فرق فيه بين الحاضر و الغائب و المعدوم، لصحة إمكان الانبعاث و الانزجار بالنسبة إليهما أيضا.

نعم، لو كان المراد بالانبعاث و الانزجار الفعليان منهما من كل جهة، لا يصح بالنسبة إلى الغائب و المعدوم، بل و لا أثر بالنسبة إلى الحاضر أيضا ما لم تتحقق جميع شرائط الفعلية، فهذا البحث كسابقيه في انتفاء الثمرة من هذه الجهة أيضا، فيصح نفي الثمرة لهذا البحث أصلا من هذه الجهات.

و أما ما ذكر له من الثمرة من حجية الظواهر بالنسبة إلى الغائبين و المعدومين، و صحة التمسك بالإطلاقات بناء على الشمول.

ص: 139

ففيه: أنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه، و هو باطل، كما يأتي، مع أن من قصد إفهامه جميع الامة لا خصوص المشافهين.

فتلخص: أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية لهذا البحث بشقوقه و فروعه.

و لو شك في تقييد الإطلاقات، و تخصيص العمومات بخصوصية المشافهين، فمقتضى الأصل عدمه، كما في سائر القيود المشكوكة التي يرجع فيها إلى الأصل.

تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

إذا تعقب العام بضمير، و تردد بين رجوعه إلى تمام أفراده أو بعضه و لم تكن قرينة على الأخير، فمقتضى أصالة التطابق بين الضمير و المرجع - التي هي من الاصول المعتبرة المحاورية - هو الرجوع إلى التمام.

و أما إذا علم برجوعه إلى البعض و كان مع العام في كلام واحد، كما إذا قيل: أكرم العلماء بإعطائهم الخمس حيث أن إعطاء الخمس يختص بالهاشمي منهم، فلا حجية للعام بالنسبة إلى غير الهاشمي، لاحتفافه بما يصلح للقرينية عرفا و إن كان ذلك في كلامين، أو كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام، كقوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ..

وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ.

و المراد بالعام الأعم من البائنات و الرجعيات، و بالضمير خصوص الأخيرة، فهناك أصلان متعارضان: أصالة العموم و أصالة التطابق بين المرجع و الضمير - التي تكون عبارة اخرى عن أصالة عدم الاستخدام - و هما من الاصول المعتبرة في المحاورات، و العمل بكل واحدة منهما يستلزم سقوط الاخرى.

ص: 140

و عن الكفاية تقديم أصالة العموم، لأنها جارية في تعيين المراد، و أصالة التطابق بين الضمير و المرجع جارية في بيان كيفية المراد مع القطع بأصل المراد، و المتيقن من بناء العقلاء في هذه الاصول هو الأول دون الأخير.

و يرد عليه.. أولا: سقوط هذا البحث رأسا لابتنائه على أن العام المخصص مجاز، و أما بناء على ما مرّ من التحقيق من عدم كونه مجازا بعد التخصيص و أنه مستعمل في العموم على أي تقدير، فلا ريب في جريان أصالة العموم حينئذ، و عدم محذور فيه بالنسبة إلى الإرادة الاستعمالية، لا الإرادة الجدية الواقعية، و لا دليل على المطابقة بين الإرادتين من كل جهة، بل مقتضى الأصل عدم اعتبارها، كما لا ريب في أن الضمير يرجع إلى تمام العام بالإرادة الاستعمالية أيضا لا الجدية الواقعية، فيتحقق العمل بالأصلين بلا مخالفة بينهما في البين بعد معلومية المراد الواقعي بالقرينة الخارجية، فيكون المقام مثل سائر الموارد التي يستكشف فيها المراد بتعدد الدال و المدلول.

إن قيل: بعد معلومية المراد الواقعي الجدي من الخارج فلا وجه لإرجاع الضمير إلى تمام العام.

يقال: هذا نحو من التفنن في الكلام و هو من المحسنات، كما لا يخفى و يمكن أن تترتب عليه أغراض صحيحة اخرى أيضا.

و ثانيا: دعوى أن المتيقن من بناء العقلاء إجراء هذه الاصول في تعيين المراد، لا في كيفية ما اريد أول الدعوى، لجريان بنائهم على الأخير أيضا.

و الحاصل: أنه يعمل بكلا الأصلين في الإرادة الاستعمالية، و لا تعارض في البين مع وضوح المراد الواقعي في الإرادة الجدية، و على أي تقدير فلا ثمرة عملية لهذا البحث بعد تعيين المراد الواقعي بالقرينة، و مع عدمها فالمرجع الاصول العملية بعد سقوط العام عن الحجية.

ص: 141

تخصيص العام بالمفهوم

لا ريب في أن مناط التخصيص إنما هو لأجل تقديم القرينة على ذي القرينة، و الأظهر على الظاهر، و هذا مما اتفق عليه أهل اللسان في جميع الملل و الأزمان، و مهما تحقق هذا المناط يصح التقديم بلا كلام، سواء كان بين المنطوقين أم المفهومين، أم بين المنطوق و المفهوم، و سواء كان المفهوم موافقا أم مخالفا. و لا إشكال في تحققه في مفهوم الموافق الذي هو عبارة عن موافقة المفهوم مع منطوقه في الإيجاب و السلب، لقوة المفهوم حينئذ، لكونه من الحكم القطعي، سواء كان بينه و بين العام الذي يخصص به عموم مطلق، أو من وجه.

و كذا في المفهوم المخالف الذي هو عبارة من مخالفة المفهوم مع منطوقه فيهما إن ثبت كونه أقوى من العام، مثل ما إذا كانت دلالة المفهوم وضعية و دلالة العام بمقدمات الحكمة، أو كانت الأقوائية مستندة إلى جهات اخرى - داخلية كانت أو خارجية - و لا تضبطها ضابطة كلية، و يمكن أن يجعل النزاع في هذا البحث لفظيا، فمن أثبت تخصيص العام بالمفهوم يثبته في ما إذا ثبتت الأقوائية، و من ينفيه إنما ينفيه في ما لم تثبت، فلا ثمرة عملية في هذا النزاع بعد ثبوت كلية الكبرى و إمكان إرجاع النزاع إلى الصغرى.

الاستثناء المتعقب لجمل متعددة

إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة، كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا...

ص: 142

فالمتبع هو القرائن المعتبرة داخلية كانت أو خارجية، فقد تدل على الرجوع إلى الكل، و قد تدل على الرجوع إلى البعض، و قد يظهر منها الإجمال، و مع عدمها فالمتيقن الرجوع إلى الجملة الأخيرة لو لم يكن الكلام مجملا، و ليس في البين قاعدة كلية يحكم بها بالرجوع إلى الكل أو البعض أو الإجمال.

و أما ما قيل: من أنه مع وحدة الفعل يرجع إلى الجميع، كأكرم الفقهاء و السادات و الزهاد إلا الفساق، و مع تكرار الفعل الواحد أو تعدده فيرجع إلى الأخيرة، فلا ريب في أنه من القرائن في الجملة. و لكن لا كلية فيه بحيث تكون قاعدة كلية تنفع في جميع موارد الشك.

تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد

استقرت السيرة من عصر الأئمّة عليه السّلام على تخصيص عمومات الكتاب و تقييد إطلاقاته بما اعتبر من خبر الواحد، و ذلك لما ارتكز في الأذهان من تقديم القرينة على ذيها، و الأظهر على الظاهر. و الخبر المعتبر - الذي يصلح للتقييد و التخصيص - قرينة على بيان المراد من عمومات الكتاب و إطلاقاته، و أظهر بالنسبة إليهما فلا بد من تقديمه عليهما، و لو لا ذلك لانسد باب الاجتهاد و لزم طرح جملة كثيرة من الأخبار.

و ما استشكل في المقام ليس إلا شبهة في مقابل البديهة. مثل: أنه لو جاز التخصيص و التقييد لجاز النسخ أيضا، و لا ريب في بطلانه، و لأن الخبر ظني الصدور، و الكتاب قطعي الصدور، و لا وجه لتقديم الظني على القطعي، و للأخبار المستفيضة الواردة في أن ما خالف قول ربنا لم نقله أو زخرف، أو يضرب على الجدار.

و الكل باطل.. أما الأول: فلأنه لا ملازمة بينهما لا شرعا و لا عقلا و لا عرفا مع الفرق الواضح بين التخصيص و النسخ، فإن الأول خروج بعض الأفراد عن

ص: 143

حكم العام مع بقاء أصل وجوده و ظهوره و حجيته، و الثاني إزالة أصل وجوده و تحققه بجميع مراتبه.

و أما الثاني: فلأنه من تقديم الأظهر في الدلالة على الظاهر فيها، لا أن يكون من تقديم الظني على القطعي من جهة الصدور، و نسبة الأخبار إلى الكتاب نسبة الشرح و التفسير و البيان.

و أما الأخير: فلأن موردها المخالفة و المباينة المطلقة من كل جهة، و التخصيص و التقييد ليس منها قطعا.

الدوران بين التخصيص و النسخ

تاريخ صدور كل من العام و الخاص..

تارة يكون مجهولا.

و اخرى: يكون زمان صدورهما معلوما تفصيلا، و أن العام مقدم على الخاص.

و ثالثة: بالعكس.

رابعة: يعلم بأنهما صدرا متقارنين.

و خامسة: يكون زمان صدور العام معلوما تفصيلا و الخاص مجهولا.

و سادسة: بالعكس.

و مقتضى شيوع التخصيص و غلبته في المحاورات - حتى قيل ما من عام إلا و قد خص - و ندرة النسخ جدا، و الاهتمام بإثباته في الكتاب و السنة أكثر من الاهتمام لإثبات التخصيص، هو الحكم بالتخصيص في جميع تلك الأقسام، و يمكن أن يجعل هذا أصلا محاوريا، و ليس في البين قاعدة معتبرة كلية عند دوران الأمر بين النسخ و التخصيص تعين أحدهما إلا هذا، فيقال الأصل عدم النسخ مطلقا إلا إذا ثبت بدليل قطعي لا سيما في أحكام الشريعة الأبدية، و هذا

ص: 144

الأصل أقوى من أصالة عدم التخصيص، لما مرّ من كثرة التخصيص، فأصالة عدم النسخ بمنزلة الأصل الموضوعي، و أصالة عدم التخصيص كالأصل الحكمي في تقدم الأول على الثاني.

و ما قيل: من أنه إذا تأخر زمان صدور الخاص عن العام يتعين النسخ، لأن الخاص بيان للعام، و مع التأخر يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة و هو قبيح.

مدفوع.. أولا: بأن تأخير البيان القبيح إنما هو في ما إذا علم أن المقتضي له موجود من كل جهة و المانع مفقود كذلك، و أما مع عدم العلم به فلا محذور فيه، بل قد يجب ذلك، فكيف بما إذا علم بالعدم؟! و قد جرت سيرة العقلاء أنهم يجعلون القوانين العامة ثم يذكرون مخصصاتها في طول شهور بل أعوام، هذا حال القوانين الوضعية الزائلة فكيف بالقوانين الأبدية التي يختلف الحكم فيها باختلاف الموضوعات و الأحوال مع أن موجبات تأخير البيان كثيرة جدا، كقصور الظروف، و الأفهام و التقية و نحو ذلك.

و ثانيا: أن الناسخ بيان أيضا للمنسوخ كالخاص، غاية الأمر أن الخاص بيان لأفراد العام، و الناسخ بيان لأزمانه، فلا فرق فيهما من هذه الجهة، فالنسخ تصرّف في المنسوخ زمانا، و التخصيص تصرّف في العام فردا، مع اشتراكهما في جامع البيانية.

و أما ما قيل: من أنه إذا ورد العام أو الخاص قبل حضور وقت العمل بالآخر، يتعين التخصيص و لا يصح النسخ حينئذ، لعدم صحة النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ.

فهو فاسد: لأن الغالب في النسخ و إن كان بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ و لكن ليس ذلك من مقوماته الذاتية بحيث يقبح بدونه، بل المناط كله وجود مصلحة فيه، سواء كان قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ، أو في أثنائه، أو بعده.

ص: 145

ثم إن المعروف في الثمرة بين النسخ و التخصيص، أن أثر التخصيص خروج الخاص عن حكم العام رأسا، و النسخ ارتفاع الحكم عن المنسوخ من حين ظهور النسخ. و إثبات الكلية لهذه الثمرة يحتاج إلى الدليل، و هو مفقود.

و مما لا مناسبة له بالاصول ما تعرض له القوم في المقام و هو مسألتا النسخ و البداء، و لا بد أن ينقح الكلام فيهما في غير المقام، و إنما تعرضنا لهما تبعا لهم.

النسخ

مما تعارف في جميع القوانين النسخ - و قد اصطلح عليه في ما قارب هذه الأعصار ب (إلغاء القانون)، و لم تخرج القوانين الإلهية عما تعارف بين البشر من الكيفيات و الخصوصيات - من العام و الخاص، و المطلق و المقيد، و المجمل و المبين، و الناسخ و المنسوخ إلى غير ذلك - و لو قيل بأن هذه الامور من لوازم جعل القانون لم يكن به بأس -. فلا ريب في وقوعه، و قد دلّت الأدلة الثلاثة من الكتاب و السنة و الإجماع عليه في الجملة أيضا، و إنما الكلام في حقيقته و عمدة الوجوه المحتملة فيه خمسة:

الأول: ظهور خلل في الحكم المنسوخ، و علم مستأنف ببعض خصوصياته مسبوقا بالجهل، بحيث لو علم به ابتداء لم ينشأ الحكم المنسوخ البتة.

الثاني: إبداء القانون بصورة الدّوام لمصلحة في نفس الأمر، أو من دون مصلحة في المجعول و المتعلق، بل لمحض المصلحة في الإنشاء الصوري فقط، ثم تبدل المصلحة الظاهرية بمصلحة اخرى واقعية في المتعلق تقتضي نسخ ما أنشأ أولا، نظير التكاليف الصورية الامتحانية.

الثالث: كون المصلحة الموجودة في المتعلق محدودة بحدّ خاص في

ص: 146

الواقع و لكن انشأ في صورة الدوام لمصلحة في ذلك، فليس في الحقيقة نسخ بالنسبة إلى شيء و إنما أظهر ثانيا أن الحكم الأول كان محدودا بحد معين فانقضى حدّه، ثم إنشاء حكم آخر لمصلحة اخرى يقتضيها الوقت، و تبدل المصالح و المفاسد بحسب الظروف و المقتضيات و الحالات مما يشهد بصحته الوجدان و البرهان.

الرابع: كون الحكم ذا مصلحة كاملة من جميع الجهات، و مقتضية للدوام أيضا كذلك، ثم تبدلت تلك المصلحة باخرى مساوية أو أقوى اقتضت رفع الحكم الأول و نسخه، فيكون النسخ تخصيصا زمانيا، و التخصيص - المصطلح عليه - تخصيصا فرديا.

الخامس: كون الحكم في الواقع هو الحكم الناسخ الذي سيثبت بعد ذلك، و إنما انشأ المنسوخ لمصلحة مقدمية لبيان الحكم الناسخ في ظرفه.

و كل هذه الوجوه صحيحة في النسخ في القوانين المجعولة، و في نسخ اللّه تعالى لأحكامه المتعالية في شرائعه المقدسة إلا الوجه الأول، فإنه مستحيل بالنسبة إليه تعالى، و إن كان هو الغالب في القوانين المجعولة.

و لكن لا محذور في صحة استناد البقية إلى اللّه تعالى من عقل أو نقل إلا شبهة واهية، و هي: أنه إن علم اللّه تعالى بأنه يرفع المنسوخ فلا وجه لإظهاره في صورة الدوام، و إن لم يعلم فهو مستلزم لجهله تعالى و هو محال، مع أنه إن كانت في المنسوخ مصلحة فلا وجه للنسخ، و إن لم تكن فيه مصلحة فلا وجه لجعله حتى ينسخ.

و لكنه مردود: بأنه تعالى يعلم بالنسخ بلا إشكال، إلا أنه اقتضت المصلحة لإظهاره بصورة الدوام و لا محذور فيه، و منه يعلم أنه كانت في المنسوخ مصلحة موقتة تختلف باختلاف المقتضيات و الجهات.

و بعبارة اخرى: دليل الناسخ كاشف عن أن المنسوخ كان موقتا في الواقع

ص: 147

و إنما ذكر بصورة الدوام لمصلحة، بلا فرق بينه و بين سائر الموقتات، إلا أن التوقيت في النسخ كان بتعدد الدال و المدلول، و في غيره من الموقتات يمكن أن يتكفل دليل واحد لذلك، و إن شئت فقل: إن التوقيت في سائر الموقتات بجعل واحد، و في النسخ بتعدد الجعل.

ثم إنه لا يخفى أن النسخ في الشرائع الإلهية بالنسبة إلى اصول الدين قليل جدا، بل لا وجه له، و كذا بالنسبة إلى الفطريات العقلية التي كشف عنها الشارع، و كذا بالنسبة إلى مهمات فروع الدين - من الصلاة، و الصوم، و الزكاة و نحوها - و إنما التغيير في جزئيات قليلة تقتضيها الظروف و الأزمان، فتبدل الأحكام و الشرائع المتعددة كتبدل حالات المصلي في الشريعة الختمية من الصحة و المرض، و فقد بعض الشرائط و وجدانه. فما قيل: إن الأصل في كل شريعة أن ينسخ ما قبلها.

ساقط لا أساس له أصلا. و قد فصّلنا القول فيه في التفسير فراجع.

البداء

و هو وجداني لكل فاعل مختار، و قد دل الكتاب الكريم، و السنّة المستفيضة على ثبوته بالنسبة إلى اللّه تعالى أيضا. قال تعالى: يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ، و في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ما عبد اللّه بمثل البداء، و ما بعث اللّه نبيّا إلاّ بالإقرار بالبداء».

و حقيقته تجدد الاختيار للفاعل المختار لمصلحة، و ليس متقوّما بالجهل و الندامة و إن تحققا بالنسبة إلى بداء غيره عزّ و جلّ، كما أن السميع و البصير بمعنى العلم بالمسموعات و المبصرات و ليسا متقوّمين بالجارحة الخاصة و إن تقوّما بها في السمع و البصر الحيوانيين، و لا ريب في صحة إطلاقهما عليه عزّ و جلّ مع امتناع الجارحة بالنسبة إليه تعالى، و كذا لا ريب في صحة الإطلاق

ص: 148

على ما نرى و نسمع في النوم مع تعطيل السمع و البصر فيه عن العمل.

و لا إشكال في أن البداء من صفات الفعل، كالإرادة، و المشيئة، و القضاء و القدر. فهو تبديل لما وقع من القضاء، لا أن يكون في مرتبة الذات و لا العلم حتى يستلزم التغيير في الذات و هو محال. و اشكل على البداء للّه تعالى بوجوه:

الأول: أن البداء يستلزم الباطل، لأنه تعالى إن علم بأنه سيبدو له و مع ذلك قضى بشيء فهو لغو، و هو قبيح، و القبيح محال بالنسبة إليه تعالى. و إن لم يعلم فهو جهل، و هو أيضا محال عليه عزّ و جلّ.

و يرد عليه: أنه تعالى عالم بأنه سيبدو له و مع ذلك قضى بالقضاء الأول ثم نقضه و قضى بالقضاء الثاني، لمصالح كثيرة في كل منهما، منها ترغيب الناس إلى الدعاء و الأعمال الصالحة و التحذير عن الأعمال السيئة التي لها آثار في تنقيص الأعمار و حبط ثواب الخيرات و قطع الأرزاق و غير ذلك، و منها أنه تعالى كل يوم - بل كل آن - في شأن، و لم يفرغ من الأمر، و ليست يده مغلولة كما قال به اليهود.

الثاني: أنه إن كانت مصلحة القضاء الأول محدودة بحدّ خاص به فلا وجه لتغييره، و إلا فلا وجه للقضاء الأول بذلك الحدّ.

و يرد عليه.. أولا: أنها كانت بالنسبة إليه تعالى لا اقتضاء فيصح معه القضاء الأول.

و ثانيا: أنها كانت محدودة بذلك الحد الخاص لو لم تعرض مصلحة أقوى، و قد تحققت فتبدل القضاء لا محالة.

الثالث: بأنه مستلزم لتكذيب الرسل و عدم اعتماد الناس على إخبارهم بالمغيبات.

و فيه: بعد النقض بالنسخ في الأحكام، أن الإخبار بالمغيبات مع تلقين الأنبياء لاممهم صحة البداء بالنسبة إلى اللّه تعالى، لا يستلزم التكذيب لفرض

ص: 149

التفات الناس إلى البداء. أما قبل إخبار الأنبياء بالمغيبات أو بعده فلا مورد للتكذيب أصلا، فيكون الإخبار بالمغيبات على نحو الاقتضاء لو لا البداء، كإخبار الطبيب بشفاء المريض مثلا لو ساعدت المقادير.

ثم إنه لا ريب في عدم صحة تعلّق البداء بالممتنعات، لاشتراط كون مورده مقدورا مقضيا و هما من أسباب الفعل الخارجي، و لا خارجية بالنسبة إلى الممتنعات، و لا قضاء و لا تقدير بالنسبة إليها، و كذا لا بداء بالنسبة إلى كليات العوام - كانقلاب كرة الشمس مثلا - و إنما مورده ما يتعلّق بالناس من حيث دخل عملهم فيه خيرا كان أو شرا. و بالجملة مقتضى الأصل عدمه إلا في ما دلت عليه النصوص، فيكون مورد البداء خصوص بعض الممكنات في الجملة.

هذا، و قد اجيب عن شبهة البداء بوجوه..

منها: ما تقدم من أنه تجدد الاختيار، و لا إشكال فيه ثبوتا و لا إثباتا.

و منها: أنه بمعناه الحقيقي بالنسبة إلى خصوص هذا العالم لا جميع العوالم، كما في قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ و قوله تعالى: حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصّابِرِينَ. مع أن علمه الأزلي يتحقق بالنسبة إلى جميع الأشياء أزلا و أبدا، فقول: بدا للّه، أي ظهر له في هذا العالم ما لم يكن ظاهرا، و لا ينافي ذلك ظهوره له في سائر العوالم و المراتب. و في البداء أبحاث اخرى ليس هنا محل ذكرها.

هذا ما يتعلّق بالبداء إجمالا. و أما ما يتعلّق بلوحي المحو و الإثبات الذين هما محور البداء، فلا يعلم حقيقتهما و خصوصياتهما و كيفية الثبت و المحو و غير ذلك مما ينوط بهما إلاّ خالقهما أو من أفاض عليه الخالق، و التفصيل يطلب من محله.

ص: 150

القسم الخامس: المطلق و المقيد - و المجمل و المبين

المطلق و المقيد

و هما من الأمور الشائعة في المحاورات في جميع الألسنة، و لا تختص بلغة دون أخرى، و يتقوم بهما الإفادة و الاستفادة، و بحث الأصولي فيهما من هذه الجهة لا لأمر يختص به دون غيره، فكل ما هو مطلق عند متعارف الناس مطلق لديه أيضا، و كذا المقيد و ليس يحد اصطلاح خاص فيه. و معناه عند الكل:

ما لم يحدّ بحدّ و لم يقيّد بقيد، و بالتعبير الإيجابي ما هو الشائع في الجنس، كالماء. أو الفرد، كرجل. و أما البدلية و الشمولية فتستفاد من القرائن، خارجية كانت أو داخلية.

و لا فرق بين العام الشمولي و البدلي و بين المطلق الشمولي و البدلي ثبوتا، و إنما الفرق بينهما بحسب مقام الإثبات، إذ لكل منهما لفظ يختص به.

ثم إن الإطلاق و التقييد من شئون المعاني أولا و بالذات و يتصف اللفظ بهما بالعرض، لمكان الاتحاد بين اللفظ و المعنى فيتصف كل منهما بصفات الآخر في الجملة، و لا ثمرة عملية بل و لا علمية في جعلهما من صفات المعنى أولا و بالذات أو بالعكس، لظهور كل منهما في المعنى و في اللفظ أيضا، كظهور حسن المعنى و قبحه في اللفظ كذلك.

و لا ريب في كون الإطلاق و التقييد من الأمور الإضافية، فربّ مقيد يكون

ص: 151

مطلقا من جهة و ربّ مطلق يكون مقيدا من جهات، فهما من الأمور الإضافية و كذا العام و الخاص. و المطلق الحقيقي هو اللابشرط المقسمي المهمل عن كل قيد حتى عن عنوان اللابشرطية.

و ذلك لأن كل شيء إما أن يلحظ بذاته، و لا يتصف في هذا اللحاظ بالإطلاق و التقييد، لفرض قصر اللحاظ على الذات من حيث هي و هما ليسا في مرتبة الذات قطعا. أو يلحظ بالنسبة إلى ما هو خارج عن الذات، و حينئذ تتحقق الاعتبارات الثلاثة المعروفة.

لأنه إما أن يلحظ مقيدا و مشروطا به و يعبّر عنه (بشرط شيء)، أو مشروطا بعدمه و هو (بشرط لا)، أو لا مقيدا به و لا بعدمه و هو (اللابشرط)، و لا ريب في أن المقسم لهذه الأقسام لا بد أن يكون مهملا عن كل جهة، كما هو الشأن في كل مقسم بالنسبة إلى أقسامه، و هنا لا بد أن يكون مجردا حتى عن عنوان اللابشرطية أيضا حتى يصح أن يكون مقسما للأقسام التي منها اللابشرط .

و قد وقع البحث في أن المطلق هل هو اللابشرط المقسمي، أو القسمي؟ و على الثاني لا يحتاج في إثبات الإطلاق إلى مقدمات الحكمة، لفرض لحاظ الإرسال فيه بخلاف الأول فإنه يحتاج إليها، لفرض إهماله حتى عند قيد الإرسال.

و الحق هو الأول لأنه المطلق الحقيقي المجرد عن جميع القيود حتى لحاظ الإطلاق و الإرسال، و يمكن إرجاع قول من قال بالثاني إلى الأول كما لا يخفى على من راجع و تأمل.

و أما احتمال أن يكون المطلق هو الذات من حيث هي فهو خطأ. أما أولا:

فلأن لحاظه من حيث هي نحو قيد يخرج به عن الإطلاق الصرف. و أما ثانيا:

فلأن المطلق في المحاورات ما لوحظ فيه الذات مهملا بالنسبة إلى عوارض

ص: 152

الذات لا بالنسبة إلى نفس الذات من حيث هي. و بالجملة: إن المطلق هو اللابشرط المقسمي المهمل عن كل قيد حتى عن الإطلاق فيحتاج في ثبوته له إلى مقدمات الحكمة، و العرف و العقل يشهد لذلك أيضا.

الفاظ المطلق

منها: اسم الجنس، و هو اللفظ الموضوع للذات المهمل عن كل قيد حتى قيد الإطلاق، سواء كان جوهرا، أم عرضا، أم عرضيا، أم اعتباريا - كالماء، و الأبيض، و البياض، و الزوجية.

و منها: علم الجنس، و ليس لكل جنس علم، بل هو مقصور على السماع، و لذا قيل:

و وضعوا لبعض الأجناس علم *** كعلم الأشخاص لفظا و هو عم

و لا فرق بينه و بين اسم الجنس إلا من جهتين:

الاولى: أن اسم الجنس نكرة بخلاف علم الجنس، فإنه معرّف لفظي تجري عليه أحكام المعرفة في الجملة - من صحة الابتداء به و نحو ذلك - و لكن تعريفه اللفظي لا يسري إلى المعنى، كما أن التأنيث اللفظي لا يسري إلى الذات، و لكن هذا القسم نادر في غالب الاستعمالات المحاورية خصوصا في الفقه.

الثانية: أن اسم الجنس وضع لذات المعنى على نحو ما مر، بخلاف علم الجنس، فإنه وضع لذات المعنى في حال تميزه عن غيره من دون أن يكون اللحاظ قيدا حتى يكون مقيدا و يمتنع صدقه على الخارجيات، بل بنحو القضية الحينية لا الشرطية، و هذه العناية أو جبت كونه معرفا لفظيا، و هذا الفرق يرجع إلى الأول في الواقع.

و منها: النكرة، و هو المفرد المبهم في الجملة، إلاّ أن التردد و الإبهام فيه

ص: 153

يتصور على أقسام ثلاثة:

الأول: التردد ثبوتا و إثباتا.

و فيه: أنه خلاف المعهود في النكرات عند المحاورات، و ليس له واقع إلا الفرض، إذ لا تحقق للمبهم كذلك إلا في الفرض و التقدير، لا بحسب التحقق حتى في الذهن و التصوير، لأن كلما كان له حظ من التحقق كان له نحو من الوجود.

الثاني: أنه المتردد ظاهرا لا في الواقع، بل هو متعين واقعا.

و فيه: أن الظاهر من موارد استعمال النكرة في المحاورات العرفية إخبارا و إنشاء غير ذلك، كما لا يخفى.

الثالث: أنها الطبيعة من حيث الوحدة البدلية السارية لكلما يصلح أن يكون فردا، و الظاهر أن هذا هو المتبادر منها في الاستعمالات.

فالمطلق على أي تقدير الطبيعة المهملة، فإن كانت متوغلة في الإبهام من كل جهة - نوعا و صنفا و فردا - فهو اسم الجنس، و إن اتصف بالتعريف اللفظي مع الإهمال المعنوي من كل جهة فهو علم الجنس، و إن كان إهمالها في خصوص الفردية البدلية السارية فقط فهي النكرة، فليس المطلق إلا الذات المتطورة بهذه الأطوار، و بعروض هذه الأطوار عليه يختلف اسمه فيسمى باسم الجنس، و بعلم الجنس، و بالنكرة. و إن لوحظت من حيث التحقق الخارجي فهو الفرد، و يخرج بذلك عن الإطلاق، و هذا هو الموافق للعرف و العقل مع أدنى تأمل في البين.

و منها: المفرد المعرّف باللام جنسا، و استغراقا، أو عهدا بأقسامه الخارجي و الذهني و الذكري، و البحث فيه من جهتين:

الاولى: في أن اختلاف اللام بهذه الأقسام هل هو وضعي، أو لأجل القرائن - خارجية كانت أو داخلية - و على الأول فهل هو بالاشتراك اللفظي،

ص: 154

أو المعنوي؟

و الحق سقوط هذا البحث عن أصله، لأن اللام لم توضع في لغة العرب إلا لغرض تزيين الكلام، و الربط بين جزئيه، و جميع هذه الأقسام لا تستفاد إلا من القرائن و المناسبات داخلية كانت أو خارجية، لفظية كانت أو غيرها، لأن التزيين و الربط الحاصل باللام معلوم، و صحة انتساب الأقسام الى القرائن مع وجودها كذلك أيضا، و الباقي مشكوك فيه فيدفع بالأصل، و قد تقدّم في بحث العام و الخاص أن المفرد المعرّف باللام من ألفاظ العموم أيضا، و أن استفادة العموم منه ليست مستندة إلى الوضع بل تكون من مقدمات الحكمة، و على هذا فاستفادة العموم و الإطلاق من المفرد المعرف باللام لا بد أن تكون لأجل مقدمات الحكمة.

الثانية: في دلالتها على الإطلاق، و الحق أن استفادة الإطلاق إنما هو من نفس المدخول من حيث هو.

إن قلت: المعهودية بأقسامها نحو من التعين، مع أن المشهور بين الأدباء أن الألف و اللام أداة التعريف و التعيين، و التعريف ينافي الإطلاق، فكيف يكون المعرّف باللام من أقسام المطلق؟!

قلت: أما التعريف فهو لفظي فلا ينافي الإبهام المعنوي، مثل ما تقدم في علم الجنس، و كذا التعين الحاصل بالعهد لا ينافي الإطلاق أيضا، لأنه ليس الإطلاق مقيدا به حتى ينافيه، بل يكون من باب انطباق المطلق و صدقه عليه قهرا، و فرق واضح بين انطباق المطلق على شيء خاص و بين تقييده به، و الثاني ينافي الإطلاق دون الأول.

و بعبارة اخرى: العهدية و الإطلاق من باب تعدد الدال و المدلول لا وحدة المطلوب، حتى ينافي الإطلاق.

ص: 155

مقدمات الحكمة و ما يتعلق بها

اشارة

و هي من القرائن العامة غير المختصة بمورد دون آخر، و قد جرت سيرة أهل المحاورة على استفادة الإطلاق منها بعد تحققها، و تتركب من امور:

الأول: كون المتكلم في مقام بيان المراد.

الثاني: عدم ما يصلح لتقييد الكلام بحيث يصح الاعتماد عليه لدى العرف.

الثالث: عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب في البين، و يمكن إرجاع الأخيرين إلى واحد، و هو عدم وجود قرينة على التقييد، و وجود القدر المتيقن قرينة. فمقدمات الحكمة في الواقع اثنتان، كون المتكلم في مقام البيان، و فقد القرينة على التقييد و مع تماميتها فالعاقل المتكلم إما أنه أراد الإهمال الواقعي، أو أراد المقيد مع عدم القرينة عليه، و هما خلاف المحاورات العرفية المتداولة بين العقلاء، فيتعين الإطلاق لا محالة، فكما أن ظاهر اللفظ حجة لدى العقلاء، فظاهر مقام التخاطب، و حال اللافظ أيضا كذلك ما لم تكن قرينة على الخلاف.

ثم إنه قد يعدّ من المقدمات كون المورد قابلا للإطلاق و التقييد، فلا تجري المقدمات في المعاني الربطية و الحرفية.

و فيه.. أولا: أن هذا مقوم موضوع جريان المقدمات، و مقومات الموضوع لا ينبغي أن تعد من لواحقه.

و ثانيا: أنه ليس في الألفاظ و المعاني ما لا يتصف بالإطلاق و التقييد إلاّ أن بعضها يتصف بهما مستقلا، كالمعاني الاستقلالية، و بعضها تبعا كالمعاني الحرفية، فلا وجه لهذا الشرط على كل تقدير، فهو ساقط من أصله.

و ينبغي التنبيه على امور
اشارة

ص: 156

الأول: ما يتعلق بالقدر المتيقن

القدر المتيقن إما خارجي، أو في مقام التخاطب. و كل منهما لا يضر بالإطلاق ما لم يوجب ظهور اللفظ في المتيقن.

الثاني: ظاهر حال كل متكلم أنه في مقام بيان مراده

إلا إذا كان هناك مانع، و يصح التمسك بالأصل المقبول في المحاورات أيضا، فيقال: الأصل كون المتكلم في مقام البيان إلاّ مع الدليل على الخلاف، و لو شك في وجود المانع يدفع بالأصل.

و يكفي في إحراز كونه في مقام البيان فعلا ما هو المتعارف منه لدى الناس في البيانات الفعلية، سواء كان أبديا أو لا. لأن البيان له مراتب متفاوتة منها دائمية، و منها ماداميّة بحسب الظروف و المقتضيات، و هي تارة مع قصر المدة، و اخرى مع طولها، و الكل يكفي للإطلاق مع عدم القرينة على التقييد.

و لو شك في أنه أبدي أو غير أبدي، فمقتضى الأصل و الظاهر هو الأول، لا سيما في الأحكام الشرعية.

الثالث: الاحتياج إلى مقدمات الحكمة إنما هو لنفي القيد و البشرطشيئية لا لنفى غيره

و أما احتمال بشرط لائية فليس من الاحتمالات التي يعتني بها العقلاء حتى يحتاج في نفيه إلى مقدمة الحكمة.

نعم، لو كان احتماله مما يعتنى به - كما في بعض الامور المبنية على الدقة من كل جهة - لاحتاج في نفيه إليها أيضا.

و لا فرق في الإطلاق بين أن يكون حاليا، أو مقاميا، أو لفظيا، فالجميع يحتاج في إثباته إلى جريان مقدمات الحكمة، بعد فرض اعتبار الكل في المحاورات العرفية.

و الفرق بين الأولين و الأخير أنه يصحّ استفادة فيهما من السكوت أيضا كما لا يخفى.

الرابع: طرق احراز الإطلاق من كلام المتكلم

إحراز الإطلاق من كلام المتكلم تارة بالقطع، و اخرى بالظاهر،

ص: 157

و الأصل على نحو ما تقدم في الأمر الثاني.

و على كل منهما فإما أن يكون في البين ما يشك في كونه قيدا، أو لا يكون، فهذه أقسام أربعة. و لا ريب في ثبوت الإطلاق في ثلاثة منها، و هي ما إذا احرز الإطلاق بالقطع، و سواء كان في البين ما يشك في كونه قيدا، أو لا، و ما إذا احرز بالأصل و لم يكن في البين ما يشك في كونه قيدا، كما لا ريب في عدم ثبوته في ما إذا أحرز بالأصل و كان في البين ما يصلح للتقييد، لعدم صحة الاعتماد على هذا الأصل حينئذ.

و أما إذا لم يكن كذلك، بل كان من مجرد الشك فيه فأصالة الإطلاق محكمة، فيجري هذا الأصل في الشك في أصل التقييد، كما يجري في الشك في قيدية الموجود إلا إذا كانت أمارة معتبرة على التقييد.

الخامس: جريان مقدمات الحكمة فى المعانى الافرادية و التركيبية و الانشائية، الكلام فى المعانى الربطية و التبعية

لا فرق في جريان مقدمات الحكمة و ثبوت الإطلاق بها بين المعاني الإفرادية، و التركيبية، و الإخبارية، و الإنشائية مطلقا، فيتصف الجميع به مع جريانها، و لا يتصف به مع عدم جريانها، كما هو واضح. و قد استقرت السيرة على التمسك بإطلاق العقود، و الجمل الشرطية، و الأوامر و الجمل الطلبية في الفقه.

و تتصف المعاني الربطية، و التبعية - كالحروف و ما يلحق بها - بالإطلاق و التقييد بتبع متعلقاتها، لمكان الوحدة الاعتبارية بينهما، فتسري عوارض المعاني الاستقلالية إلى المعاني التبعية المتقوّمة بها أيضا.

نعم، إذا لوحظت تلك المعاني التبعية منسلخة عن المعاني الاستقلالية، لا وجه لعروض الإطلاق و التقييد عليها، إذ لا ذات لها إلا في الغير و بالغير، و ما كان كذلك لا معنى لاتصافها ذاتا بأية صفة كانت.

و بذلك يمكن الجمع بين الكلمات، فمن يقول بعدم اتصاف المعاني التبعية بهما أي بالذات، و من يقول باتصافها بهما أي بالتبع، و هذا وجه صحيح.

ص: 158

السادس: عدم اتصاف الاعلام الشخصية من حيث التشخص بالاطلاق و التقييد

لا تتصف الأعلام الشخصية من حيث التشخّص بالإطلاق، لأن التشخّص ينافي الإرسال و السريان، فلا تتصف بالتقييد من هذه الحيثية أيضا، لما يأتي من أن بين الإطلاق و التقييد تقابل العدم و الملكة، فكل ما لا يتصف بالإطلاق لا يتصف بالتقييد أيضا.

نعم، يصح اتصافها بهما من حيث عوارضها، كالزمان و المكان و سائر صفاتها المحفوفة بها، كالطول و القصر، و السواد، و البياض و نحوها، إذ كل شيء محفوف بعوارض لا تحصى، لأن من شئون الممكن الاحتفاف بالعوارض، بل يتصف الواجب تعالى بالأوصاف الإضافية الكثيرة، كالخالقية، و الرازقية، و الرأفة، و القهارية و غير ذلك مما لا يحصى.

السابع: تعدد الاطلاق و التقييد فى كلام واحد من جهات متعددة

يمكن أن تكون للكلام جهات عديدة قابلة للإطلاق و التقييد، فإن تمت مقدمات الحكمة بالنسبة إلى جميعها يثبت الإطلاق كذلك، و إلا فبالنسبة إلى ما تمت فقط، و لا يثبت بالنسبة إلى ما لم تتم إلا إذا كانت ملازمة بين الجهات عقلية كانت، أو عرفية، أو شرعية فيثبت الإطلاق حينئذ بالنسبة إلى جميع الجهات، و إن تمت المقدمات بالنسبة إلى بعضها فقط، لفرض تحقق الملازمة بين الجهات جميعها.

الثامن: سقوط احتمال ورود التقييد المعصومي لاطلاقات الكتاب و السنة بعد الغيبة الكبرى

لا وجه لاحتمال ورود التقييد المعصومي لإطلاقات الكتاب و السنة بعد الغيبة الكبرى، لانقطاع طريق الوصول إليه (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) فينحصر احتماله بتحقق الإجماع و دليل العقل المعتبرين شرعا.

التقييد

المشهور أن التقابل بينه و بين الإطلاق من تقابل العدم و الملكة، لأن المطلق عبارة عن عدم التقييد بما يصلح أن يكون مقيدا به، هذا إن عرف المطلق بالعنوان السلبي، و أما إذا عرف بالعنوان الإيجابي، كالإرسال و السريان

ص: 159

فيصح أن يكون بينهما تقابل التضاد، لكون كل منهما وجوديا لا يصح اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة، و ليس التضاد إلا ذلك.

و لا بأس باجتماع بعض أقسام التقابل مع بعضها الآخر مع اختلاف العنوان و الجهة.

و أما تقابل السلب و الإيجاب - بناء على تفسير المطلق بالتعبير السلبي - فعن بعض عدم صحته بينهما، لما ثبت من أنه لا يمكن ارتفاع النقيضين و في المقام يجوز ذلك، كما في أخذ قصد الأمر في متعلقه، حيث لا يصح تقييد الأمر به و لا إطلاقه بالنسبة إليه، فيرتفع الإطلاق و التقييد في هذا المورد.

و يرد عليه.. أولا: أن قصد الأمر ممكن أخذه في متعلقه، كما تقدم بيانه.

و ثانيا: أن الممتنع من ارتفاع النقيضين إنما هو بحسب الواقع، و لا ريب في عدم جوازه في الواقع، لأن الأمر بالنسبة إلى متعلقه إما مطلق في علم اللّه تعالى، أو مقيد، و إن لم يمكن الإطلاق و التقييد بحسب الاعتبار الصناعي، فارتفاع الإطلاق و التقييد الصناعي لا محذور فيه، و لا تعتبر الموافقة بين كل أمر صناعي و بين الامور الواقعية، لأن الأول اعتباريات محضة، و ارتفاع الضدين و اجتماعهما في الاعتباريات لا بأس به.

و لا ثمرة عملية معتد بها في تحقيق أن التقابل بينهما من أي الأقسام، بل و لا ثمرة علمية أيضا.

ثم إن صدق المطلق على المقيد - كصدقه على نفسه - حقيقي، لما تقدم من أنه اللابشرط المنقسم إلى الأقسام، و لا ريب في تحقق المقسم في جميع أقسامه، و صدقه عليها صدقا حقيقيا، بل و كذا لو كان المطلق عبارة عن اللابشرط القسمي، فيصح أن يكون صدقه على المقيد حقيقيا من باب تعدد الدال و المدلول، فيكون لفظ المطلق قد استعمل في ذات المعنى و يستفاد التقييد من دال آخر، فلا يكون من استعمال اللفظ في غير الموضوع له حتى يكون مجازا،

ص: 160

لتحقق الإرادة الاستعمالية بالنسبة إلى كل منهما و هي تكفي في الصدق الحقيقي، و مقتضى الأصل عدم اعتبار شيء آخر. نعم لو اعتبرت الإرادة الجدية الواقعية في الصدق الحقيقي يكون مجازا حينئذ، لعدم تحقق تلك الإرادة إلا بالنسبة إلى القيد.

ختام فيه أمران:
الأول: يعتبر في حمل المطلق على المقيد، و سقوط الإطلاق عن الاعتبار إحراز وحدة التكليف و ثبوت التنافي بينهما

، و إلا فيصح الأخذ بمفاد كل واحد من الدليلين و لا موضوع للتقييد حينئذ، و لذا اشتهر بين الفقهاء أنه لا موضوع له في غير الإلزاميات، لعدم إحراز وحدة التكليف فيها، بل القيود الواردة فيها من باب تعدد المطلوب غالبا إلا إذا دل دليل من الخارج على وحدته، و لو شك في مورد أنه من باب وحدة المطلوب أو تعدده فلا موضوع للتقييد أيضا، لعدم إحراز وحدة المطلوب، و تجري أصالة الإطلاق بلا محذور.

و الحاصل أن الأقسام ثلاثة:

فتارة: يحرز وحدة المطلوب.

و أخرى: يحرز عدمها.

و ثالثة: يشك فيها.

و يتعين التقييد في الأول دون الأخيرين، فيصح الأخذ بالإطلاق فيهما أيضا.

الثاني: كل ما ورد لبيان الجزئية أو الشرطية...

أو المانعية أو القاطعية، لا ريب في تحقق موضوع التقييد بالنسبة إليها و إلا لبطل وجوبه و تشريعه، بلا فرق فيه بين الإلزاميات و غيرها. و كذا ما كان واجبا نفسيا في شيء آخر، بحيث لو لم

ص: 161

يكن الآخر لكان وجوبه لغوا، كبعض واجبات الحج.

و استفادة ما ذكر إما من القرائن الداخلية أو الخارجية، و مع الشك في شيء مما ذكر فمقتضى الأصل اللفظي و العملي عدم وجوبه، فلا موضوع للتقييد، كما أنه مع تحقق موضوعه لا وجه لحمل القيد على الندب و الأخذ بالإطلاق، لأنه خلاف طبع القيدية و يحتاج إلى قرينة دالة على ذلك.

ثم إن جميع ما تقدم في أقسام إجمال العام و المخصص و أحكامها تجري في إجمال المطلق و المقيد أيضا، و كل مورد لا يصح فيه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لا يصح فيه التمسك بالمطلق أيضا.

و كل مورد يجوز ذلك هناك، يجوز هنا أيضا. و كذا ما تقدم في الدوران بين النسخ و التخصيص يجري هنا أيضا، إذ المطلق ملحق بالعام و التقييد ملحق بالتخصيص، فهما متحدان حكما من هذه الجهة.

ص: 162

المجمل و المبين

و هما من المفاهيم المعروفة في المحاورات، و ليس للعلماء فيهما اصطلاح خاص. فالمجمل ما لم يتضح المراد منه و لو بالقرائن. و المبين بخلافه عند الجميع حتى الاصوليين، هذا بحسب المفهوم.

و أما بحسب المصداق فالمرجع في تعيينه الأذواق السليمة، و الأذهان المستقيمة، و الظاهر كونهما من الامور الإضافية، فربّ مجمل عند بعض مبين عند آخر و بالعكس.

و للإجمال مناشئ كثيرة، كتشابه اللفظ و اختلاف القراءة و نحو ذلك، و يصح وقوع الإجمال في كلام الحكيم تعالى، إذ قد يتعلق الغرض بالإجمال و الإهمال لمصالح شتى.

و أما حكمه فهو أنه إن كان مما يتعلّق بالأحكام فلا بد من التفحّص التام لعله يزول الإجمال و الإبهام، و مع عدم الزوال يرجع إلى أدلة اخرى، و مع عدمها فإلى الاصول العملية و هي مختلفة باختلاف الموارد.

ص: 163

القسم السادس: التعارض

اشارة

لا بد أن يذكر هذا البحث في مباحث الألفاظ، لرجوعه إلى كيفية الاستفادة من الدليلين المتعارضين بحسب المحاورات العرفية.

امور تمهيدية:

الأول: مفهوم التعارض من المبينات عند العرف

، و هو أعم من التناقض و التضاد المعروفين في علم المنطق، فيكون المراد به في المقام مطلق التنافي عند المتعارف بين الناس. و لا اختصاص له بعلم دون آخر بل يجري في جميع العلوم النظرية، و الحرف و الصنائع الفكرية مطلقا.

و الظاهر كونه في غير الأخبار منتهيا إلى غير الاختيار، لأن منشأه اختلاف الأنظار في استخراج الواقعيات، و هو يحصل من اختلاف الاستعدادات، و هي ذاتية لا دخل للاختيار فيها.

و أما الأخبار فمنشأ حصول التعارض فيها أحد امور على سبيل منع الخلو:

منها: أنهم عليه السّلام تعمدوا في ذلك، كما يستفاد ذلك من جملة من الأخبار، كموثق زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام المنقول في الحدائق.

و منها: قصور نقل الناقلين و فهمهم خصوصا بعد التفاتهم إلى جواز النقل بالمعنى.

ص: 164

و منها: التقية.

و منها: اختفاء القرائن، إلى غير ذلك من الامور التي تظهر بعد التأمل.

و ليس ذلك من الإغراء بالجهل - كما قد يتوهم - لأنه بعد اهتمام الأئمّة عليه السّلام ببيان أحكام التعارض و شدة ترغيبهم في الوصول إلى الحقيقة، لا وجه لتوهم لزوم الإغراء بالجهل.

الثاني: التعارض من صفات المدلول ثبوتا، و يسري إلى الدلالة إثباتا

و إلى الدليل المركب منهما أيضا، و ذلك لمكان التضايف بين المدلول و الدلالة و الدليل، فتسري صفات كل منها إلى الآخر في الجملة، و لا ثمرة عملية في أنه من صفات أي منها إلا ما يتوهم من أنه إن كان من صفات المدلول يتحقق التعارض في مورد مثل النص و الظاهر، ثم يرفع بالجمع العرفي المحاوري من تقديم النص على الظاهر و نحوه، بخلاف ما إذا كان من صفات الدلالة، فلا يكون في موارد الجمع العرفي المحاوري تعارض أصلا، إذ لا يرى أهل المحاورة فيها تعارضا لما ارتكز في أذهانهم من الجمع بينهما فيها.

و يرد عليه: أن ما يأتي من أحكام التعارض إنما يترتب على التعارض الثابت المستقر في الجملة إلا ما يزول بأدنى توجه و التفات، و التعارض في موارد الجمع العرفي مما يزول بأدنى توجه و التفات فلا موضوع للتعارض فيها، سواء كان من صفات المدلول أو الدلالة، لأن موضوعه التحير الثابت المستقر، لا المتزلزل الزائل، سواء كان الزوال بالتخصص، أو الورود، أو الحكومة، أو التخصيص، أو الجمع العرفي أو غير ذلك.

الثالث: قد شاع استعمال التزاحم و التعارض، و اشتباه الحجة بغير الحجة في الفقه و الاصول.

و الأول عبارة عما إذا كان امتناع الجمع بين الحكمين من ناحية عدم قدرة المكلف فقط لا من ناحية الشارع، فإنهما تامان ملاكا و تشريعا، بل و حجة

ص: 165

عليهما في مقام الإثبات أيضا من كل جهة، و يلزم ذلك كونه اتفاقيا، لأن جعل ما لا يقدر عليه المكلف دائما قبيح، و أن يكون الترجيح بحسب الملاك فقط لفرض تمامية الحجة عليهما في مقام الإثبات فلا منشأ للترجيح من هذه الجهة، و لو لم يوجد الترجيح الملاكي يتعين التخيير الثبوتي لا محالة.

و الثاني عبارة عن عدم إمكان تشريع الحكمين ثبوتا لكن مع اجتماع دليلهما لشرائط الحجية إثباتا.

و لا قصور له في مقام الإثبات، بل هو منحصر في مقام الثبوت فقط، إذ ليس في البين إلا حكم واحد، و أما مقام الإثبات فالدليلان جامعان لشرائط الحجية. فيكون الترجيح في مقام الإثبات لا محالة و مع عدمه فالتخيير الإثباتي، كما يأتي.

و الأخير يشترك مع الثاني في أنه ليس فيه أيضا إلا حكم واحد في مقام الثبوت، و يفترق عنه في مقام الإثبات، فإن الدليل فيه واحد لا تعدد فيه بوجه، فيكون خارجا تخصصا عن مورد التعارض و التزاحم، و لكنه يتردد بين كونه حجة أو غير حجة، كتردد رجال السند بين الثقة و غيره، و تردد الحديث بين كونه للتقية و عدمها، إلى غير ذلك من الجهات الموجبة لعدم الحجية، و المرجع فيه التفحص في ما يتكفل لبيان هذه الامور، و بعد الفحص و اليأس عن الحجية يرجع إلى الاصول العملية.

الرابع: من المحاورات الشائعة النص، و الأظهر، و الظاهر.

و لا ريب في تقدم الأول على الأخيرين، و الثاني على الأخير، لصلاحية النص للتصرّف فيهما بخلاف العكس، كما أن الأظهر يصلح للتصرف في الظاهر من دون عكس، و هذا من المسلّمات المحاورية. كالتسالم على اعتبار الظواهر، فلا يحتاج إلى إقامة دليل عليه من الخارج.

كما أن صحة الجمع العرفي كذلك، و هو عبارة عن التصرف في الدليلين

ص: 166

أو أحدهما، بحيث إذا عرضا على المتعارف من أهل اللسان يعترفون بأنه لا تعارض بينهما مع هذا الوجه من التصرّف، بشرط أن تدل قرينة معتبرة على هذا الجمع و التصرّف، و إلا يكون من الجمع التبرعي الافتراضي. الذي يكون لغوا و باطلا.

و قد شاع عند من قارب هذه الأعصار من الأعلام لفظا الورود، و الحكومة، مع خلو كلمات القدماء عنهما.

و الورود: عبارة عن خروج مورد أحد الدليلين عن مورد الدليل الآخر موضوعا بعناية الجعل، فيكون مشتركا مع التخصص في الخروج الموضوعي إلا أن التخصص تكويني - كخروج الجاهل عن مورد أكرم العلماء - و الورود يكون بعناية الجعل - شارعا كان الجاعل أو غيره - كخروج مورد الاصول العقلية عن مورد الأمارات المعتبرة الشرعية، لأن اعتبار تلك الاصول إنما هو في مورد عدم وصول الحجة المعتبرة، و مع الوصول لا يبقى مورد لها قهرا. و استعمال الورود قليل الابتلاء في الفقه، كما لا يخفى على الفقهاء.

و الحكومة - و هي التي يكثر الابتلاء بها في الفقه - عبارة عن أن يكون أحد الدليلين صالحا لتوسيع مورد الدليل الآخر، أو تضييقه، أو يصلح لهما معا.

و الأول كقوله عليه السّلام: «التراب أحد الطهورين» بالنسبة إلى قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ بطهور» حيث يوسع الطهور إلى الطهارة الترابية أيضا.

و الثاني كقوله عليه السّلام: «لا شكّ لكثير الشكّ» بالنسبة إلى قوله عليه السّلام: «إذا شككت فابن على الأكثر» حيث يضيقه بالنسبة إلى خصوص الشكوك المتعارفة دون الكثيرة.

و الثالث كقوله عليه السّلام: «العمري و ابنه ثقتان فما أدّيا فعنّي يؤدّيان» فإنه يوسع العلم في قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إلى مورد الأمارات

ص: 167

المعتبرة أيضا، كما يضيق موارد اعتبار الاصول مطلقا إلى غير موارد الأمارات المعتبرة.

و عن بعض مشايخنا قدس سرّهم أن الحكومة تارة واقعية، كما إذا كان مورد الحاكم و المحكوم من الأحكام الواقعية.

و اخرى ظاهرية، و هي ما إذا كان موردهما من الأحكام الظاهرية.

و لكن لا ثمرة فقهية لهذا التقسيم أبدا، لأن الحاكم مقدم على المحكوم مطلقا بأي نحو كان.

و بالجملة أن الحكومة بحسب مقام الثبوت تارة للتوسعة. و اخرى للتضييق. و ثالثة لهما معا، و كل منها إما بالنسبة إلى الموضوع أو المحمول أو هما معا، فتصير تسعة، و كل من التسعة إما واقعية أو ظاهرية، فتكون ثمانية عشر.

ثم إن التخصيص مما يكون شائعا في المحاورات مطلقا و هو إخراج بعض أفراد العام عن حكمه فقط بلا عناية أن يكون دليل الخاص ناظرا إلى التضييق في أفراد العام و إن كان يترتب عليه ذلك قهرا.

و فرّق بينه و بين الحكومة..

تارة: بأن التخصيص من شئون الألفاظ، و الحكومة من شئون المعاني.

و فيه: أنه مجرد الدعوى، مع أن اللفظ طريق إلى المعنى فيصير التخصيص من شئون المعنى بالآخرة.

و اخرى: بأن إجمال الحاكم يسري إلى المحكوم مطلقا - متصلا كان أو غير متصل - بخلاف الخاص، فإنه إن كان منفصلا و تردد بين الأقل و الأكثر، يؤخذ بالعام بالنسبة إلى الأكثر.

و فيه: أنه يمكن أن يقال في الحكومة بهذا التفصيل أيضا.

و ثالثة: بأن التخصيص للتضييق دائما بخلاف الحكومة، فإنها ربما توسع كما تقدم.

ص: 168

و فيه: أنه تستفاد التوسعة من التخصيص أيضا، لأن قول: لا تكرم الفساق، يضيق مفاد أكرم العلماء و يوسع الفساق بشموله لفساق العلماء أيضا.

و قد ذكر وجوه اخرى ضعيفة، و لعل الفرق حيثية الشارحية التي تتقوّم بها الحكومة دون التخصص.

الخامس: استقرت سيرة العقلاء على تقديم الخاص على العام مطلقا

، سواء كانا قطعيين من حيث السند و الدلالة، أو ظنيين كذلك، أو بالاختلاف، لأن الخاص قرينة للتصرّف في العام، و تقديم القرينة على ذيها من القطعيات في المحاورات، و لا فرق بين كونهما في كلام واحد أو لا. مع أن فرض تعدد الكلام حقيقة في شريعة خاتم الأنبياء مما لا وجه له، لأن ألسنة المعصومين عليهم السّلام من بدء البعثة إلى بدء الغيبة الكبرى لسان واحد يحكي عن واحد، و لا تلاحظ النسبة بينهما، فيقدم الخاص مطلقا على العام مطلقا، إذ ليست ملاحظة النسبة بين القرينة و ذيها من دأب العقلاء في أنحاء المحاورات، و كذا الكلام في المطلق و المقيد مع تحقق شرط التقييد، أي إحراز وحدة المطلوب.

السادس: قد اشتهرت قضية: «أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح»

و استدل عليها.. تارة: بالإجماع.

و اخرى: بأن الطرح طرح للدلالة الأصلية، و هي المطابقة، و في الجمع طرح للدلالة التضمنية أو الالتزامية، و طرح الدلالة التبعية أولى من طرح الدلالة الأصلية.

و ثالثة: بأن الأصل في الدليل الاعتماد عليه.

و الكل باطل.. أما الأول: فلا رسم و لا إشارة إليه بين القدماء مع كون المسألة ابتلائية بين العلماء، و على فرض الاعتبار فالمتيقن منه مثل المطلق و المقيد، و العام و الخاص و نحوهما من العرفيات المسلّمة في المحاورات، و هي مما ينبغي أن يستدل بها، لا أن يستدل عليها.

ص: 169

و أما الثاني: فلأن طرح الدلالة و بقاءها تدور مدار الأغراض الصحيحة المحاورية، فمع وجود الغرض الصحيح في البين يؤخذ بالدلالة الالتزامية و تطرح المطابقية - كما في الكنايات و نحوها - و مع عدمه تنتفي جميع الدلالات.

و بالجملة فإن ذلك كله يدور مدار الأغراض المعتبرة، و نفس هذه الجملة: طرح الدلالة التبعية أولى من طرح الدلالة الأصلية، يحتاج في إثباتها إلى دليل و هو مفقود، مع أن هذا الدليل عين المدعى بعد التأمل كما لا يخفى.

و أما الثالث: فهو بمعنى الغلبة في الجملة، لا بأس به، لكن في تمام مدلوله لا في بعضه، فلا دليل على كلية هذه القضية بوجه.

نعم، لو كان المراد بالجمع الجمع العرفي المقبول عند ذوي الأذهان القويمة و السلائق المستقيمة.

و المراد من الإمكان القياسي منه بالنظر إلى القرائن الخارجية و الداخلية، فهو حق لا ريب فيه، فيكون المراد بالاولى حينئذ هو اللزوم، كما في قوله تعالى:

وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.

و هذا النحو من الجمع شائع في الفقه؛ بل في جميع العلوم مطلقا، فتكون القضية بناء على هذا التفسير من القضايا التي يغني تصورها عن الاستدلال عليها.

و أما إذا كان المراد بالجمع مطلق الجمع و لو كان بعيدا عن الأذهان و لم يكن عليه دليل و لا برهان. و كان المراد بالإمكان الذاتي منه في مقابل الاستحالة الذاتية، أو الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع العادي العرفي، فلم يقل بصحة هذا النحو من الجمع أحد من العقلاء فضلا عن العلماء.

و موضوع هذا الجمع إنما هو صدور المتعارضين عن واحد، أو من هو كالواحد - كالأئمة عليهم السّلام - و أما لو كان صدورهما عن المتعدد فلا موضوع للجمع

ص: 170

حينئذ، كما في رأي مجتهدين في موضوع واحد، و إن كان الجمع حسنا و كان صحيحا في نفسه.

ثم إن القرائن الشاهدة على صحة الجمع لا تضبطها ضابطة كلية، بل تختلف باختلاف الموارد، كما أن ما يأتي من أحكام التعارض من الترجيح، و التخيير أو التساقط، لا تشمل موارد الجمع العرفي مطلقا، لأن موضوعها التعارض المستقر لا البدوي الزائل بأدنى التأمل و النظر.

السابع: إن كان النص و الأظهر معلومين، فلا ريب في تقدم النص على الأظهر

، كتقدمهما على الظاهر. و إن لم يكن أحدهما معلوما فإن أمكن تعينه بقرينة خاصة تتبع لا محالة، و إلا فتصل النوبة إلى القرائن العامة.

و قد يقال: بوجود القرينة العامة في بعض الموارد..

منها: ما إذا تعارض العام الاصولي - كأكرم العلماء - و المطلق الشمولي - كلا تكرم الفاسق - فيدور الأمر بين تخصيص الأول، أو تقييد الثاني.

فقيل: بأن العام الاصولي أظهر في العموم فلا بد من تقييد المطلق، لأن التصرف في المطلق أكثر، و لأن عموم العام وضعي، و إطلاق المطلق بمقدمات الحكمة و هي لا تجري مع ما يصلح للقرينية و العام يصلح لها، فلا موضوع للمقدمات مع وجوده.

و يرد الأول بأن ذلك من مجرد الدعوى، كيف و قد اشتهر أنه ما من عام إلا و قد خص.

و الثاني بأنه صحيح إن كان العموم بالوضع، كلفظ (كل) و ما يرادفه، لا ما إذا كان ذلك بمقدمات الحكمة أيضا، كالعام الاصولي.

ثم إنه لا فرق بين كون صدورهما متقارنا أو متلاحقا، لأن تشريع الحكم و جعل القانون بجميع حدوده و قيوده - فصل الزمان بين بيانها، أو لم يفصل، طال أو قصر - كتشريع واحد و جعل فارد و لا سيما في أحكام الشريعة التي

ص: 171

تكون جميع ألسنة تشريعها من المعصومين عليهم السّلام كلسان واحد، فإنها و إن تعددت صورة لكنها واحدة حقيقة.

فما عن صاحب الكفاية قدّس سرّه من أن عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة، عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا خلاف التحقق، مع أنه خلاف مبناه في الفقه أيضا.

ثم إنه بعد عدم إحراز ترجيح التقييد على التخصيص و لا العكس، لا بد في مورد الاجتماع من الرجوع إلى الأصول العملية، لصيرورة الكلام مجملا حينئذ.

و منها: ما إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام شيء، و دار الأمر بين كونه ناسخا أو كاشفا عن المخصص السابق، أو مخصصا فعلا.

و عن الشيخ الأنصاري قدّس سرّه استحالة الثاني، فتكون الناسخية أظهر لا محالة، لتوفر الدواعي على ضبط ما ورد، فالعادة تقضي باستحالة التخصيص كشفا أو فعلا.

و فيه: أن الاهتمام بالضبط مسلّم و لكن وصول كل ما ضبطوه إلينا أول الدعوى، و قد ذكر أن المحقق قدّس سرّه ينقل عن اصول لا رسم لها عندنا و لا أثر راجع الجواهر بحث تطهير إناء الولوغ.

و قيل: بتقديم التخصيص على النسخ لكثرة الأول و قلة الثاني.

و فيه: أن ذلك لا يوجب الأظهرية، كما هو معلوم.

و قيل: بالعكس لأن النسخ تصرّف في زمان العام و التخصيص تصرّف في أفراده، و ظهور العام في الأفراد أقوى من ظهوره في الأزمان، لأن الأول بالوضع، و الثاني بمقدمات الحكمة.

و فيه: أن السريان الزماني في الأحكام ليس بمقدمات الحكمة، بل بالأدلة القطعية. منها ما دل على أن: «حلال محمد صلّى اللّه عليه و آله حلال الى يوم القيامة، و حرامه

ص: 172

حرام إلى يوم القيامة» فيكون التخصيص أظهر.

و يمكن أن يقال: إن بناء المحاورات العقلائية في الدوران بينهما على تقديم التخصيص، و هذا البناء كالقرينة المعتبرة.

حكم المتعارضين

اشارة

لا بد أن يذكر حكم التعارض في المبادئ لعدم اختصاصه بعلم دون آخر، أو يذكر في ختام المطلق و المقيد - كما فعلناه - لكونه من الامور المحاورية المتعارفة، و لكن مشايخنا قدس سرّهم تعرضوا له بعد الاصول العملية.

التعارض في الأدلة و الأقوال من الامور الشائعة في جميع العلوم، بل هو متحقق في العرفيات، و لا يختص بأدلة الفقه، و يمتنع عادة أن لا يكون للعقلاء في حكمه بناء مستمر، و سيرة مستقرة. و لأجل ذلك لا بد أولا من تحقيق بناء العقلاء في مورد التعارض، ثم الرجوع إلى الأدلة الشرعية، فإن كان ردع عن بنائهم فهو المتبع لا محالة، و إلا فيكفي عدم ثبوت الردع في اعتبار بنائهم في هذا الأمر العام البلوى، كسائر السير العقلائية، و إذا تأملنا في بنائهم نجدهم يحكمون بالفطرة في مورد التعارض بامور ثلاثة:

الأول: عدم الحجية الفعلية للمتعارضين بعد التعارض، لأن حجيتهما معا لا تعقل، و أحدهما بالخصوص ترجيح بلا مرجح، و هذا مما تحكم به الفطرة في جميع موارد التعارض مطلقا، و قد اتفق العلماء على ذلك أيضا.

و هذا الأصل من الاصول العقلائية المعتبرة لديهم، و لا إشكال فيه بناء على الطريقية المحضة التي استقرت عليها السيرة في الحجج المعتبرة.

و كذا بناء على السببية الباطلة أو الصحيحة التي هي عبارة عن وجود المصلحة السلوكية المتداركة للواقع عند التخلّف، لأن الظاهر عدم القائل بوجود مصلحتين كذلك في صورة التعارض، أو السببية المحضة، و على فرض وجود

ص: 173

القول بذلك يكون من التزاحم في المصلحة السلوكية، لأنه يمكن ثبوتا جعل المصلحة كذلك في كل منهما.

و أما بناء على السببية الباطلة فلا يكون منه، لأن مورد التزاحم ما كان ثبوته ممكنا، و المفروض عدمه.

هذا، و لكن الحجية الاقتضائية ثابتة لا محذور فيها، إذ لا تعارض في مقام الاقتضاء و إنما هو في المرتبة الفعلية و التأثير.

إن قلت: كيف تسقط الحجية الفعلية مع كون المتعارضين حجة في نفي الثالث.

قلت: نفي الثالث مستند إلى التفحّص في الأدلة و عدم الظفر به، لا إلى المتعارضين، مع أن نفي الثالث مستند إلى الدلالة الالتزامية، و هي تابعة للدلالة المطابقية، لا لحجية المدلول المطابقي. أصل الدلالة شيء و حجيتها شيء آخر، و الساقط بالتعارض هو الثاني دون الأول، و لا فرق في ما ذكر بين الإلزاميات و غيرها، كالمندوبات و نحوها.

الثاني: أنهم بعد سقوط الحجية الفعلية يتأملون و يتفحصون في إيصال الحجية الاقتضائية إلى مرتبة الفعلية بإعمال ما يمكن أن يصير منشأ لذلك من المرجحات التي لا تضبطها ضابطة كلية، بل تختلف باختلاف الموارد و الأشخاص، و الظاهر أن هذا أيضا من الامور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل و برهان.

الثالث: بعد استقرار التحيّر المطلق و اليأس عن الظفر على المرجح من كل حيثية و جهة، تبعث الفطرة إلى التخيير و تحكم به، و هو تخيير عقلائي، و قد يكون عقليا، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين، هذه امور كلها يغني الوجدان فيها عن إقامة البرهان، و تجري في الجميع من البينات المتعارضة القائمة على الموضوعات، و أقوال اللغويين، و المفسرين و أهل الرجال، و آراء

ص: 174

المجتهدين و غير ذلك مما يقع فيه التعارض و التنافي مما يكون موردا للابتلاء، فإن ثبت من الشرع ما يكون رادعا يتبع، و إلا فهو المحكم.

و ما ورد في حكم المتعارضين أقسام:

منها: ما يدل على الأخذ بالأخير، و المناقشة فيه

، كما في مرسل حسين بن المختار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أ رأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: كنت آخذ بالأخير. فقال عليه السّلام: رحمك اللّه» أو الأحدث، كما في خبر الكناني: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا عمرو أ رأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما و أدع الآخر. فقال عليه السّلام: قد أصبت يا أبا عمرو، أبى اللّه عزّ و جلّ لنا و لكم في دينه إلاّ التقيّة». و المراد منها واحد.

و فيه: مضافا إلى مخالفتهما للمشهور - إذ لم أجد عاملا بهما في ما تفحصت - و معارضتهما بغيرهما مما هو كثير، أنهما ليسا في مقام بيان حكم المتعارضين، بل في مقام التنبيه على أن الاختلاف إنما كان لأجل التقية أو نحوها من المصالح، و لا ربط لهما ببيان حكم العلاج بين المتعارضين، و يشهد لذلك ذيل خبر الكناني، مع أنه لا وجه يتصور في الأخير إلا النسخ، و بناء عليه لا ربط لهما بالمقام أيضا، لعدم التعارض بين الناسخ و المنسوخ. فإنه لا وجه لاحتمال الأخذ بالأخير و لو كان مخالفا للكتاب و موافقا للعامة، و كان الأول بالعكس، و لا يرضى بذلك فقيه فكيف بالمعصوم عليه السّلام. فلا وجه لعدّ هذه الأخبار من أخبار علاج المتعارضين.

و منها: ما يدل على التوقف، و الجواب عنه

كموثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمره بأخذه، و الآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: يرجئه حتّى يلقى من يخبره

ص: 175

فهو في سعة حتّى يلقاه»، و عن الرضا عليه السّلام: «و عليكم بالكفّ و التثبّت و الوقوف و أنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا»، و عن أبي جعفر عليه السّلام: «و إن اشتبه عليكم الأمر فقفوا عنده و ردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا»، و عن سماعة عن الصادق عليه السّلام: «يرد علينا حديثان، واحد يأمر بالأخذ! و الآخر ينهانا عنه. قال عليه السّلام: لا تعمل بواحد حتّى تلقى صاحبك. قلت: لا بدّ و أن نعمل بواحد منهما!! قال عليه السّلام: خذ بما فيه خلاف العامة»، و هناك روايات اخرى.

و فيه: أنه مضافا إلى مخالفتها للمشهور، و معارضتها بما يأتي من مقبولة ابن حنظلة، أن المراد بالتوقف ترك العمل ابتداء، و ترك الاستعجال بالعمل، أو الطرح من غير تأمل و تفحص في الأخبار و القرائن، بل لا بد من التفحّص حتى الظفر بالمرجح ثم العمل بالراجح.

و ليس المراد التوقف إلى الأبد و ترك العمل مطلقا حتى لو ثبت الرجحان في أحدهما.

و المراد من الإرجاء حتى يلقى من يخبره، أو حتى يأتي البيان من عندهم، أو حتى نشرح لكم...، أو حتى تلقى صاحبك. هو العرض على ما صدر منهم عليهم السّلام في هذا الباب، ثم الحكم بمحصول ما يستفاد من المجموع، فإذا ظفرنا بالمتعارضين و عرضناهما على المقبولة يصدق أنه توقفنا، أي تركنا العمل بدوا و رجعنا إلى بيانهم عليهم السّلام، و ما شرحوه لنا، و لقينا صاحبنا - يعني ما ورد من صاحبنا - إلى غير ذلك من التعبيرات التي تقدمت في أحاديث التوقف.

فالتوقف عن العمل في المتعارضين اللذين يكونان مورد الابتلاء ملازم عرفا للتفحص عن القرائن الموجبة لصحة العمل بأحدهما، و المقبولة تشمل على تلك القرائن، فيكون لها نحو حكومة على غيرها من الأخبار التي تدل على التوقف الذي يكون عبارة اخرى عن التثبت و التفحص عما يوجب الرجحان و الاطمئنان بأحدهما.

ص: 176

و ما يقال: من أن التوقف ذكر في خبر سماعة قبل المرجح الذي هو المخالفة للعامة، و في المقبولة ذكر بعد تمام المرجحات، فيتعارضان من هذه الجهة.

مدفوع: بأن ما ذكر في خبر سماعة هو التوقف عن العمل لأجل الفحص و الظفر بالمرجح، و ما ذكر في المقبولة هو التوقف بعد الظفر به و اليأس عن غيره، فلا ربط لأحدهما بالآخر حتى يثبت التعارض.

و الحاصل: أنه ليس في أخبار التوقف ما يخالف بناء العقلاء و سيرتهم في المتعارضين.

و منها: ما دل على الأخذ بما وافق الاحتياط و ردّه

و فيه: مضافا إلى معارضته بالمقبولة و غيرها، و إلى أنه قد يكون المورد مما لا يمكن فيه الاحتياط، و إلى أنه خلاف المشهور، و خلاف سهولة الشريعة، أنه إرشاد إلى حسنه و لا يستفاد منه أكثر من ذلك، فليس فيه أيضا ما يخالف بناء العقلاء و سيرتهم.

و منها: ما يدل على التخيير - و الجواب عنه

و هي عدة روايات يأتي بعضها - ففي مرسل الاحتجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا سمعت من أصحابك الحديث و كلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فترد عليه»، و في مرسله الآخر عن الرضا عليه السّلام:

«قلت: يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيّهما الحقّ، فقال عليه السّلام: إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت».

و فيه: أن التخيير بحسب المرتكزات إنما هو في مورد التحير المطلق، و هو منتف مع المرجح، فتختص بصورة فقد المرجح، فلا تشمل مورد تحقق الترجيح و لهذه القرينة الارتكازية المحفوفة بها، فلا إطلاق لها حتى يعارض بها المقبولة و نحوها مما يدل على الترجيح. فلا وجه لحمل ما يدل على الترجيح على الندب.

ص: 177

و منها: مقبولة عمر به حنظلة الاشكال عليها و الجواب عنه

المقبولة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعه في دين أو ميراث فتحاكما إلى السّلطان أو إلى القضاة، أ يحلّ ذلك؟ قال عليه السّلام: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا و إن كان حقه ثابتا لأنه أخذ بحكم الطاغوت و إنّما أمر اللّه أن يكفر به. قال اللّه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. قلت: فكيف يصنعان؟ قال عليه السّلام: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإنّي جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ و علينا قد ردّ. و الراد علينا الراد على اللّه، و هو على حدّ الشرك باللّه.

قلت: فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا في ما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال عليه السّلام: الحكم ما حكم به أعدلهما، و أفقههما، و أصدقهما في الحديث، و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ فقال عليه السّلام: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكمنا به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشّاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه مما لا ريب فيه - إلى أن قال - قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقات عنكم؟ قال عليه السّلام: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السّنّة و خالف العامة فيؤخذ به و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السّنّة و وافق العامة. قلت: جعلت فداك أ رأيت إن كان

ص: 178

الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السّنّة و وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة و الآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال عليه السّلام: ما خالف العامّة ففيه الرشاد.

فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟ فقال عليه السّلام: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكّامهم الخبران جميعا؟ قال عليه السّلام: إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

و الظاهر أنه لا إشكال في هذه المقبولة من حيث السند، فإنه قد يحصل الوثوق بصدورها من قرائن، كوقوع صفوان بن يحيى في الطريق، و اعتناء المشايخ الأجلاء - من المحدثين و الفقهاء في كل طبقة - بها ضبطا و عملا و بحثا، و قول الصادق عليه السّلام في ما ورد في الأوقات عن عمر بن حنظلة: «إنّه لا يكذب علينا» إلى غير ذلك مما يمكن استفادة توثيقه، كما لا يخفى على من راجع كتب الرجال، فلا إشكال فيها من هذه الجهة.

نعم، قد أشكل عليها بوجوه:

منها: أنها في مورد الحكومة فلا تشمل غيرها.

و فيه: أنها ظاهرة؛ بل ناصّة في أن المدار على منشأ الحكم و دليله، لا أن يكون لنفس الحكم من حيث هو موضوعية خاصة، و لا فرق حينئذ بين كون الدليل دليلا للحكم أو للفتوى، فتشمل جميع الأحاديث المتعارضة الصالحة للدليلية مطلقا.

و منها: معارضتها بمرفوعة زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام فقلت له:

جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران و الحديثان المتعارضان، فبأيهما آخذ؟ فقال عليه السّلام: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت: يا سيدي إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال عليه السّلام: خذ بما يقول أعدلهما

ص: 179

عندك و أوثقهما في نفسك. فقلت: إنهما معا عدلان مرضيان موثقان؟ فقال عليه السّلام:

انظر ما وافق منهما العامة فاتركه، و خذ بما خالف، فإن الحق في ما خالفهم.

قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين، فكيف أصنع؟ قال عليه السّلام: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك و اترك الآخر. قلت: إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال عليه السّلام: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر»، و في هذه المرفوعة ذكرت الشهرة أول المرجحات بخلاف المقبولة، حيث ذكرت فيها بعد صفات الراوي، مع أن سيرة العلماء على تقديم الترجيح بالشهرة على سائر المرجحات مطلقا.

و فيه: أن أول المرجحات الخبرية الشهرة، نصا و فتوى، و في المقبولة ذكرت في أول المرجحات الخبرية أيضا، و إنما ذكرت الصفات للحاكم من حيث أنه حاكم لذكر منصب الحكومة في صدر المقبولة، لا للخبر المتعارض من حيث أنه خبر متعارض، بل ظاهر قوله عليه السّلام: «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما...» ذلك، كما أن ظاهر قوله عليه السّلام: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه..» أن الشهرة أول المرجحات الخبرية، فلا تنافي بين المقبولة و المرفوعة و ما استقر عليه عمل المشهور من تقديم الشهرة على جميع المرجحات.

و قد أرسل صاحب الجواهر في كتاب الكفارات إرسال المسلّمات أن الشهرة أقوى المرجحات، و لا يخفى أن المرفوعة غير مسبوقة بذكر الحكومة، فلا بد أن تذكر الشهرة أولا بخلاف المقبولة المسبوقة بها، فإنه لا بد من الإشارة إجمالا إلى مرجحات الحاكم ثم بيان مرجحات مدرك حكمه.

و منها: اختصاص المقبولة بزمان الحضور، لما ذكر في ذيلها: «فأرجئه حتى تلقى إمامك».

و فيه: أن التعبيرات مختلفة، ففي المقبولة: «حتّى تلقى إمامك»، و في موثّق

ص: 180

سماعة: «حتّى يلقي من يخبره»، و في خبر آخر: «حتّى يأتيكم البيان من عندنا»، و في خبر آخر: «حتّى ترى القائم فترد إليه».

و يستفاد من الكل أنه ليس لملاقاة الإمام عليه السّلام، و رؤية القائم موضوعية خاصة، بل المناط كله الوصول إلى الحجّة المعتبرة الصادرة عن المعصوم.

و بعد التأمل في جميع الأحاديث الصادرة عنهم عليهم السّلام ورد مشابهاتها إلى محكماتها، يعلم أن الحجة المعتبرة عندهم إنما هي التخيير بعد التكافؤ من جميع الجهات.

و الحاصل: أنه لم يزد ما صدر عنهم عليهم السّلام في حكم التعارض على ما ارتكز في العقول من العمل بالراجح ثم التخيير، بل جميع ما صدر إرشاد إلى الفطرة وداع إليها.

ثم إنه قد ذكر في المرجحات في المقبولة الأصدقية، و لا وجه لها بالنسبة إلى نفس مطابقة الواقع، لأنها تتصف بالوجود و العدم، و لا تقبل الشدة و الضعف حتى يتحقق فيها التفضيل.

نعم، يصح التفضيل بالنسبة إلى جهة اخرى بأن يكون أحد الراويين يصدر منه الكذب الجائز شرعا أحيانا، و الآخر لا يصدر منه حتى ذلك. فتدبر.

و لا بد من بيان امور:
الأول: انواع المرجحات المذكورة فى المقبولة، الاشكال عليها و الجواب عنه المراد من مخالفة العامة

المرجحات المذكورة في المقبولة أنواع ثلاثة: سندية، و مضمونية، و جهتية.

و الأول، كالأعدلية، و الأصدقية، و كون الخبر مشهورا.

و الثاني كموافقة الكتاب و السنّة.

و الثالث كمخالفة العامة، و مقتضى ذكرها في سياق موافقة الكتاب كونها من المرجحات المضمونية أيضا، فينطبق عليها المرجح المضموني و الجهتي معا، و لا محذور فيه.

ص: 181

و بحسب الأفراد ثمانية: 1 - الأعدلية. 2 - الأفقهية - 3 - الأصدقية. 4 - الأورعية. 5 - الشهرة. 6 - موافقة الكتاب. 7 - موافقة السنة. 8 - مخالفة العامة.

و جميعها مذكورة في المقبولة.

ثم إن الظاهر أن المرجحات في المتعارضات العرفية الدائرة بينهم تنحصر في هذه الثلاثة أيضا، إلا أن المرجح المضموني عبارة عن موافقة أحد المتعارضين لما كان معتبرا لديهم بحسب متعارفهم من القوانين المعتبرة لديهم، خالقية كانت أو خلقية، فكما أن أصل الترجيح في المتعارضين في الجملة عقلائي، كذلك يكون نوع الترجيح أيضا.

و مقتضى السيرة أن الشهرة أقوى المرجحات، و قد صرح بذلك صاحب الجواهر في أول كتاب الكفارات، كما عرفت.

ثم إنه قد يقال: إن الشهرة، و مخالفة العامة، و موافقة الكتاب لا يمكن إلا أن تكون لتمييز الحجة عن غير الحجة، لأن الشاذ و موافق العامة و مخالف الكتاب، ساقط عن الاعتبار بالمرة، فلا وجه لعدها من المرجحات.

و فيه: أنه ليس الترجيح باعتبار الحجية الفعلية من كل جهة في كل واحد من المتعارضين، لعدم تصورها كذلك فيها. بل معناه جعل الحجة الاقتضائية فعليا، و لا ريب في صحة ذلك، لفرض اعتبار السند فيهما.

و بعبارة اخرى: الترجيح ابداء المانع عن الحجية، لا إسقاط المقتضي لها، و بذلك يمكن الجمع بين الكلمات، فمن قال بكونها من المرجحات، أي لما فيه اقتضاء الحجية، و من قال بالعدم، أي في مقام الحجية الفعلية من كل جهة.

ثم إنه لا يخفى أن المعصوم عليه السّلام داع إلى كتاب اللّه تعالى و مفسّر و مبين له، و الداعي إلى الشيء و المفسر و المبين له لا يعقل أن يكون مخالفا له و مباينا معه، فعدم صدور مخالف الكتاب من المعصوم عليه السّلام من الفطريات التي تلازم دعوته إلى الكتاب و ليس من التعبديات، كما أن الأخذ بمخالف العامة أيضا كذلك، لأن

ص: 182

أهل كل مذهب و ملة - حقا كان أو باطلا - لا يقدمون على أخذ شيء من أحكام مذهبهم من المذهب المخالف لهم إلا إذا ثبت الاتحاد فيه بالدليل المعتبر، و هذا أيضا في الجملة من الفطريات، و أوجب الشارع ذلك أيضا احتفاظا على المذهب الحق أن تتدخل فيه المذاهب الفاسدة. و قد احتمل فيه وجوه أخر:

منها: أنه لأجل التعبد المحض.

و فيه: ما لا يخفى.

و منها: أن لنفس المخالفة من حيث هي موضوعية خاصة.

و فيه: أنه إن رجع إلى ما قلناه فهو، و إلا فيحتاج إلى دليل و هو مفقود.

و منها: أن الصواب في خلافهم، و هو حق في الجملة.

و منها: أن الموافق صدر تقية.

و فيه: أنه يرجع إلى ما قبله.

و منها: أنه لأجل إلقاء الخلاف و إن كان الموافق أقرب إلى الواقع، و يشهد له صحيح زرارة حيث قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم النّاس علينا و لكان أقل لبقائنا و بقائكم»، و في خبر أبي خديجة: «لو صلّوا على وقت واحد عرفوا فأخذوا برقابهم»، و هذا وجه حسن جدا، كما لا يخفى على من تأمل في حالاتهم عليهم السّلام و ما ورد عنهم. و قد ذكر غير ذلك من الوجوه المذكورة في الكتب المبسوطة.

و لا يخفى أن طرح الموافق عند التعارض لا ينافي وجوب الأخذ به أحيانا للتقية، لأن كلا من الطرح و الأخذ جهتي، لا أن يكون مطلقا.

الثاني: المراد من موافقة الكتاب

قد عرفت أن موافقة الكتاب من المرجحات، و المنساق منها ما إذا كان الحكم في الكتاب و كان موافقا له، و يمكن حملها على عدم المخالفة - كما في بعض الأخبار الأخر - ثم حمل عدم المخالفة على عدم المخالفة و لو على نحو السالبة بانتفاء الموضوع، فيصير عدم المخالفة حينئذ أوسع دائرة من

ص: 183

الموافقة، كما هو معلوم.

و لا ريب أن في الكتاب الكريم مبينات و متشابهات، و المراد بالمخالف له ما كان مخالفا لمبيناته لا المجملات، لأنها ذات وجوه يستدل بها كل من المذاهب الإسلامية لمذهبه، و كما أن المراد بالمخالفة ما تحير أبناء المحاورة في الجمع بينهما، لا ما أمكن الجمع عرفا، كالمطلق و المقيد، و العموم و الخصوص و نحوهما.

و المراد بالسنّة أيضا ذلك، أي السنّة المبينة التي علم صدورها من النبي صلّى اللّه عليه و آله فهي التي لم يصدر من المعصومين عليهم السّلام خلافها بالمعنى الذي تقدم.

و الظاهر أن المراد بمبينات الكتاب التي لم يصدر منهم عليهم السّلام ما يخالفها أعم مما كان مبينا بذاته أو بواسطة السنّة النبوية، و لذا ذكرت السنّة أيضا في قولهم عليهم السّلام: «يترك ما خالف الكتاب و السنّة».

و الوجه في ذلك كله أن الداعي إلى الشيء و الحافظ له لا يخالفه و لا ينافيه، كما هو واضح لا ريب فيه، فالمراد بالكتاب الكتاب المبين بذاته، أو المشروحة بالسنّة المعتبرة.

الثالث: هل يمكن التعدى من المرجحات المنصوصة الى كل ما يحصل به الاطمئنان؟ الدليل على ذلك

وقع الكلام في أن المرجحات المنصوصة هل تكون لها موضوعية خاصة - فلا يصح التعدي إلى غيرها - أو إنها ذكرت لأجل كونها موجبة للاطمئنان بالصدور غالبا، فيتعدى إلى كل ما كان كذلك؟ أقواهما الأخير، لأن اعتبار نفس الأمارة من حيث الطريقية المحضة فتكون المرجحات أيضا كذلك، فكلما يوجب الاطمئنان العقلائي بالصدور يوجب الترجيح ما لم يردع عنه الشرع، هذا مع أنه لا وجه للتمسك بإطلاقات التخيير مع موجود محتمل الترجيح، لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية.

و أما الاستدلال على التعدي بقوله عليه السّلام: «الرشد في خلافهم» فإن إطلاقه يدل على أخذ كل ما كان فيه الرشد بالنسبة، و بقوله عليه السّلام: «فإنّ المجمع عليه ممّا

ص: 184

لا ريب فيه»، إذ ليس المراد مما لا ريب فيه مطلقا صدورا و دلالة و جهة، فإنه مختص بالنصوص القرآنية، بل المراد ما لا ريب فيه بالإضافة، فكل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره، يكون له ترجيح بالنسبة إليه.

فهو مخدوش: لعدم دلالته في الكلام على أن قوله عليه السّلام: «الرشد في خلافهم»، و قوله عليه السّلام: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» من العلة التامة المنحصرة المستقلة للحكم، و من الممكن، بل الظاهر أنه من قبيل بيان الحكمة، و الشك في ذلك يكفي في عدم استفادة العلية التامة المنحصرة حتى يدل على صحة التعدي، مع أنه يمكن أن يكون المراد بقوله عليه السّلام: «المجمع عليه لا ريب فيه» أي عند الناس لا بالنسبة إلى الواقع، فإن الناس مجبولون على الأخذ بالمشهور لديهم مطلقا.

ثم إنه قد ذكر صاحب الوسائل في الفائدة الثامنة من خاتمة الوسائل امورا يمكن منها حصول الوثوق بالصدور، فراجع فإن جملة منها مما لا بأس به.

و يشهد له قول الصادق عليه السّلام لجميل بن دراج: «لا تحدّث أصحابنا بما لم يجمعوا عليه فيكذّبوك»، و قول الرضا عليه السّلام ليونس بن عبد الرحمن: «يا يونس حدّث الناس بما يعرفون و اتركهم عمّا لا يعرفون»، و تشهد له التجربة القطعية أيضا، و من مثل هذه الأخبار يمكن استفادة صحة التعدي.

الرابع: سقوط الترتيب بين المرجحات المنصوصة بناء على التعدى، الجواب هما ورد من الاشكال

بناء على ما تقدم من أن المرجحات لا موضوعية فيها، بل تكون طريقا إلى الوثوق بالصدور و الوصول إلى الواقع، لا يبقى موضوع للبحث عن الترتيب بينها، لفرض تحقق مناط الترجيح في الجميع، مع أن مقتضى الأصل عدم الترتيب أيضا، و لا دليل على الخلاف إلا ما يتوهم من ذكرها مرتبة في المقبولة.

و فيه: أن الترتيب الذكري أعم من الواقعي، مع أنها مذكورة في سائر الأخبار غير مرتبة و سياقها آب عن التخصيص.

ص: 185

إن قيل: إن مع وجودها في المتعارضين بلا ترتب يشك في شمول إطلاق أدلة التخيير، فلا بد من مراعاة الترتيب.

نقول: لا وجه للشك مع إحراز اتحاد المناط و إطلاقات الأدلة في المرجحات الآبية عن التقييد، و كون الترتيب في المقبولة لفظيا لا واقعيا.

نعم، المشهور بين الفقهاء فتوى و عملا أن الشهرة أقوى المرجحات، فلا يبقى مجال معها لإعمال سائر المرجحات، كما لا موضوع معها لإطلاق أدلة التخيير، و يشهد له العرف أيضا، فإن الظاهر أنهم يقدمون الشهرة الاستنادية في أمورهم المعاشية و المعادية على سائر المرجحات في موارد التعارض.

الخامس: اقسام الشهرة

الشهرة تارة: استنادية، بأن احرز استناد القدماء إلى الرواية لاعتمادهم عليها في الاحتجاج و العمل بها.

و اخرى: نقلية، بأن كانت مضبوطة في الجوامع و المجامع من غير إحراز استنادهم إليها في العمل و الاحتجاج.

و ثالثة: فتوائية محضة، بأن اشتهرت الفتوى بشيء عند القدماء قدس سرّهم مطابقة للرواية من غير إحراز استنادهم إليها.

و تحقق الاولى بالنسبة إلى خبر ضعيف جابرة لضعفه، لأن جمعا من خبراء الفن إذا اعتمدوا على شيء من فنهم و احتجوا به لا محالة يحصل من ذلك الاطمئنان العقلائي باعتبار ذلك الشيء. كما أن إعراضهم كذلك عن خبر صحيح موهن له، لأن إعراض الخبراء عما هو صحيح يكشف عن ظفرهم بما يوجب الوهن.

و الثانية: قد تكون من المرجحات و قد لا تكون، و لا كلية في ذلك.

كما أن الثالثة أيضا كذلك، و سيأتي بعض القول في حجية الظن إن شاء اللّه تعالى.

و المناط في كل ذلك حصول الوثوق و الاطمئنان بالصدور، و هو دائمي

ص: 186

في الشهرة الاستنادية، و اتفاقي في الأخيرتين.

السادس: معاملة المرجح من الظن ان لم يقم دليل على اعتباره و لا على عدم اعتباره

الظن إن قام على اعتباره الدليل يصلح للترجيح، و إن قام على عدم اعتباره دليلا فلا يصح عليه التعويل، و إن لم يكن من الأول و لا من الأخير فقد جرت سيرة الفقهاء على معاملة المرجح معه أيضا، فتراهم يقولون: «عليه الأكثر»، و «عليه جمع من القدماء»، و «كما عليه الشهيدان و المحققان» إلى غير ذلك من التعبيرات الكثيرة الموجبة للاعتماد.

و لعل الوجه في ذلك أنه مع وجود هذه الظنون يحصل الشك في شمول إطلاقات أدلة التخيير، فلا يصح التمسك بها حينئذ مع ثبوت ملاك سائر المرجحات فيها، و هو حصول الاطمئنان في الجملة، بل قد جرت عادة الفقهاء على عدّ الموافقة للأصل من المرجحات، فراجع الجواهر و غيره.

حكم المتعارضين بعد التكافؤ

اشارة

لا يخفى أنه كما أن حجية أصل الخبر الموثوق به إنما هو ببناء العقلاء كذلك متممات الحجية و فروعها أيضا تكون ببناء العقلاء، فإن التعارض و أحكامه من لوازم الحجة الموجودة بين العقلاء و الدائرة بينهم، و لا يمكن أن يكون هذا الأصل النظامي دائرا بينهم بينما تكون لوازمها و فروعها مغفولا عنها لديهم، مع كونها من مقومات محاوراتهم و احتجاجاتهم، و قد تقدم أن الأنواع الثلاثة للمرجحات ثابتة عند المتعارف أيضا في محاوراتهم الشائعة لديهم، و لا بد و أن يبحث عن حكم المتعارضين بعد التكافؤ من جميع الجهات عند العقلاء، و أنه بعد استقرار الحيرة لديهم هل يختارون الاحتياط في العمل إن أمكن، أو يتوقفون عنه مطلقا، أو أنهم يرجعون إلى التخيير بحكم فطرتهم؟

اقسام التخيير
اشار الى امور
أما الأول: عدم اختصاص التخيير بزمان الغيبة بناء على كونه عقليا الكلام فى ذلك

فهو و إن كان حسنا ثبوتا و لكنه خلاف البناء المحاوري النوعي في الطرق المعتبرة لديهم و الحجج الدائرة بينهم، مع أنه تشديد في الأمر الذي

ص: 187

التحير و عدم إمكان رفعه، و على هذا لا وجه لإتعاب النفس في ملاحظة النسبة بين الأخبار الدالة على التخيير و سائر الأخبار الواردة في حكم المتعارضين، لأنه مع استقرار التحير و عدم إمكان رفعه عرفا يثبت التخيير، سواء كان عقلائيا أو شرعيا، و سواء كان في زمان الحضور أو زمان الغيبة. و مع عدم استقراره و إمكان رفعه عرفا لا موضوع له أصلا، بلا فرق بين الزمانين، و لا بين كونه عقلائيا أو شرعيا.

الثاني: التخيير لا يكون إلاّ بعد الفحص عن المرجحات و الياس عنها

لا موضوع للتخيير مطلقا إلا بعد الفحص عن المرجحات و اليأس عنها، لأن موضوعه إنما هو قبح الترجيح بلا مرجح، فمع وجوده أو احتماله لا موضوع له لا عقلا و لا شرعا.

الثالث: اختصاص موضوع التخيير بالمجتهد

موضوع هذا التخيير - سواء كان عقلائيا أو شرعيا - إنما هو في أخذ الحجة أي المسألة الاصولية، فيختص بالمجتهد، إذ العامي بمعزل عن ذلك، و لا يكون استمراريا، لأنه بعد الأخذ بأحدهما يصير ذا حجة معتبرة فلا يبقى موضوع للتخيير حينئذ، كما لا وجه لاستصحاب التخيير بعد صيرورته ذا حجة معتبرة.

الرابع: الجواب عما يتوهم من حمل اخبار الترجيح على الاستحباب و الاخذ باطلاق اخبار التخيير

بعد كون موضوع التخيير مطلقا - إنما هو صورة فقد المرجح - لا وجه لتوهم حمل أخبار الترجيح على الاستحباب، و الأخذ بإطلاق أخبار التخيير، لأنه من إثبات الإطلاق في ما لا موضوع له، و هو قبيح. نعم، يمكن أن يقال: إن مجرد الوثوق بالصدور في كل واحد من المتعارضين يكفي في الحجية، لإطلاق أدلة اعتبار الخبر الموثوق به و إطلاق السيرة العقلائية، فيتحقق موضوع التخيير بمجرد الحجة الاقتضائية و إعمال المرجحات إن كان لزيادة الوثوق فلا دليل على أصل اعتباره، لفرض حصول أصل الوثوق في الجملة. و إن كان لجهة اخرى فهي مدفوعة بالأصل. و لعل نظر من حمل المرجحات على الندب إلى ذلك و إن كان بعيدا عن ظاهر كلماتهم، و لم أجد ما ذكرناه محررا في كلامهم فراجع.

ص: 188

يكون أصله مبنيا على التسهيل و التيسير، لأن هذه كلها من فروع اعتبار الخبر الموثوق به الذي هو من أهم الامور النظامية التسهيلية.

و كذا الثاني مع أنه قد يؤدي إلى اختلال النظام لديهم، مضافا إلى أنه قد لا يكون المورد قابلا للتوقف بل لا بد من العمل به في الجملة فيتعين الأخير، فيكون التخيير أيضا في تعارض الحجج المعتبرة بعد التكافؤ و استقرار الحيرة من الاصول النظامية الدائرة لديهم في محاوراتهم عند تحقق الحيرة المستقرة.

و الأخبار الواردة في التخيير عند الحيرة المستقرة وردت على طبق هذا الأمر المرتكز في الأذهان بحكم فطرة الإنسان فلا يكون من الامور التعبدية، و ما ورد من الشارع إنما هو لأجل التقرير و عدم الردع عن هذه الطريقة المعهودة المرتكزة عند العرف.

فالتخيير إما تكويني محض، كما في دوران الأمر بين المحذورين مع عدم كون أحدهما قربيا. أو عقلائي، كما في نظائر المقام. أو شرعي، كما في خصال الكفارات مثلا. و على هذا لا اختصاص له بخصوص تعارض الروايات، بل يشمل جميع موارد التعارض، سواء كان فيها، أو في أقوال الرجال، و أهل اللغة أو غيرها.

نعم، بناء على كون التخيير في المقام شرعيا محضا لاختص بخصوص مورد الأخبار المتعارضة، لاختصاص أدلة التعارض بها، و لكن عرفت أنها وردت في مقام عدم الردع عن طريقة العقلاء، فلا وجه للاختصاص، و لذا يمكن القول بشموله لموارد اختلاف النسخ و اختلاف النقل أيضا بعد التكافؤ المطلق و التحير المستقر.

و ينبغي الإشارة إلى امور:

الأول: بناء على كون التخيير عقلائيا لا يختص بزمان الغيبة، بل يشمل زمان الحضور أيضا بعد عدم قدرته عليه السّلام ظاهرا على رفع التحير، إما لعدم المقتضي أو لوجود المانع، بل و كذا لو كان تعبدا من الأخبار لفرض استقرار

ص: 189

موضوع حكم التعارض

يختص حكم التعارض - من الترجيح، ثم التخيير - بالمتباينين فقط و لا وجه له في العام و الخاص، و لا المطلق و المقيد، لتحقق الجمع العرفي المقبول فيهما، بل تقدم عدم كونهما من التعارض في المحاورات أصلا، فيخرجان عنه تخصصا.

و كذا موارد العموم من وجه، لأن المتفاهم من أدلة حكم التعارض ما إذا لم يمكن الأخذ بالدليلين في الجملة، و هو ممكن في مورد الافتراق من الدليلين، بل و كذا في مورد الاجتماع أيضا، لأن المنساق من دليل حكم التعارض - ترجيحا أو تخييرا - إنما هو في ما إذا لزم من الطرح و الرجوع إلى الأصل محذور شرعي، و لا يلزم ذلك في مورد الاجتماع من العامين من وجه، بل الشائع في المحاورات هو الطرح، و لا محذور فيه إلا لزوم التفكيك في العمل بمدلول الدليل و لا إشكال فيه، بل هو كثير في الفقه، كما لا يخفى.

حكم التعارض إن كان بين أكثر من دليلين

التعارض بين أكثر من الدليلين كثير في الفقه، كما في تحديد الكر، و انفعال البئر، و حكم السلام المخرج عن الصلاة، و حكم الركعتين الأخيرتين من الرباعيات من حيث القراءة و التسبيحات، و حكم ذبيحة الكتابي، و حكم أكثر النفاس إلى غير ذلك مما لا يستقصى. و لا تضبطها ضابطة كلية حتى تذكر في الاصول، و يختلف حكمها حسب اختلاف الأبواب و الموارد، و قد يضطرب في بعض موارده الخبير الماهر.

قال في الجواهر في بحث السلام: «و يكفيك أن الشهيد مع شدة تبحره

ص: 190

و حسن وصوله إلى المطالب الغامضة قد اضطرب عليه المقام، كما لا يخفى على كل ناظر للذكرى...».

التعرض لبعض صور التعارض بين الادلة، و هى كثيرة

ثم إنه قد تعرض الاصوليون لبعض صور التعارض بين الأدلة:

منها: ما إذا ورد عام، كأكرم العلماء، و خاصان بينهما التباين، كلا تكرم الكوفيين منهم و لا تكرم البصريين منهم. و حكمه تخصيص الخاص بكل واحد من الخاصين ما لم يكن محذور في البين من التخصيص المستهجن و نحوه، و إلا فيعامل معاملة التعارض بين العام و مجموع الخاصين، و يؤخذ بالأرجح منهما في البين، و مع فقده فالتخيير.

و منها: ما إذا ورد عام و خاصان، و كان بينهما العموم المطلق، كأكرم العلماء و لا تكرم العراقيين، و لا تكرم الكوفيين. و حكمه كالقسم الأول، كما هو الظاهر من المحاورات.

و ما يقال: من تخصيص العام بأخص الخاصين ثم ملاحظة النسبة بينه و بين الخاص الآخر، لا شاهد عليه من عرف أو عقل أو شرع، و كونه القدر المتيقن من التخصيص، لا يوجب الظهور في التخصيص به أو لا. نعم، لو كانا متصلين بالعام يصادم الظهور في العموم، و حينئذ يكون التعارض بين الدليلين لا أكثر، فيخرج عن مورد البحث.

و دعوى: أنه مع ملاحظة التخصيص بأخص الخاصين قد تنقلب النسبة إلى العموم من وجه، فلا بد من ملاحظة النسبة المنقلب إليها.

و هذه الدعوى فاسدة: لأن المدار في النسب الملحوظة في الظواهر، النسبة الظاهرة الأولية المنساقة من ظاهر الكلام، لا المنقلبة إليها بعد التخصيص.

و منها: ما إذا ورد عام و خاصان بينهما العموم من وجه، كأكرم العلماء و لا تكرم النحاة، و لا تكرم الصرفيين. و ظاهرهم الاتفاق على تخصيص العام بكل منهما ما لم يلزم محذور في البين.

ص: 191

و منها: ما إذا ورد عامان من وجه، ثم ورد دليل آخر لإخراج مورد افتراق أحد العامين، مثل أكرم النحويين، و لا تكرم الصرفيين، و بعد ذلك قال: يستحب إكرام النحوي غير الصرفي. فتنقلب النسبة إلى العموم المطلق، إذ يصير مفادهما هكذا: أكرم النحويين و لا تكرم النحوي الصرفي، فيعمل معه معاملة المطلق و المقيد.

و منها: ما إذا كان بينهما التباين، كأكرم العلماء و لا تكرم العلماء، ثم ورد دليل آخر على إخراج العدول من لا تكرم العلماء، فتنقلب إلى العموم المطلق، إذ يصير مفادهما أكرم العلماء و لا تكرم فساقهم، و الحكم في الجميع تخصيص العام بتمام المخصصات ما لم يلزم محذور التخصيص القبيح، بلا فرق بين ورودها في عرض واحد أو متقدما و متأخرا. هذا بعض ما يتعلق بالمقام و التفصيل يطلب من الفقه في المواضع المناسبة.

ثم إنه لا يخفى أنه لا فرق في الأحكام العامة للتعارض بينهما إذا كان التعارض بين الدليلين أو أكثر، فيجري جميع ما تقدم في المقام أيضا.

ص: 192

المقصد الثاني الملازمات العقلية

اشارة

ص: 193

ص: 194

و هي على قسمين:

تمهيد

اشارة

اتفق العقلاء على أن العقل أعلى الكمالات الإمكانية، و أغلى الجواهر الروحانية، و عليه يدور نظام المعاش و المعاد، و على ذلك أجمعت الشرائع الإلهية. و من المعلوم أنه ليس كل عقل له حظ للإصابة إلى الواقع، كما أنه ليس كل واقع يمكن أن يدرك بالعقول، فكم من واقع مستور و كم من عقل أليف الضعف و القصور و إن بذل غاية الجهد و نهاية الوسع، و في العيان و الوجدان في ذلك غنى عن إقامة البرهان، و من ذلك حصلت الاختلافات الكثيرة في العلوم مطلقا.

ثم إن ما يتعلق بمباحث العقل كثير جدا، و الذي يبحث عنه في الفقه و الاصول أربعة:

المبحث الأول: أنه مناط التكليف

، فلا تكليف بدونه، و عليه يدور الثواب و العقاب، و تدل عليه الأدلة الأربعة، كما فصّل في محله. و هذا يذكر في الفقه، كما يذكر في فني الحكمة و الكلام، و في كتاب العقل و الجهل من كتب الأحاديث، كالكافي و غيره.

المبحث الثاني: الملازمة بين حكم العقل المستقل و بين حكم الشرع

، و عبّروا عنها ب (قاعدة الملازمة) و هي من القواعد الهامة التي تعرضوا لها في الكلام و الحكمة و الاصول.

و هي تعني أنه كل ما حكم به الشرع يحكم به العقل، و هذه القاعدة قديمة

ص: 195

جدا، بل كانت في قديم الأزمان معتقد بعض أعاظم حكماء يونان، و تظهر من كلمات بعض أهل العرفان، حيث يقولون: إن العقل شرع داخلي و الشرع عقل خارجي، و لا فرق بينهما في حاق الواقع، فلو تجسّم العقل لكان بصورة النبي، كما لو تجرد النبي لصار العقل بعينه؛ بلا فرق بينهما إلا باختلاف النشأة و العالم، و لهذا بحث طويل عريض جدا، و سنشير إلى بعض ما يتعلق بهذه القاعدة في مباحث حجية الحجج إن شاء اللّه تعالى، و ليس المقام مناسبا لذكرها، لأن المقام يبحث فيه - كما أشرنا إليه - عن صغريات الحجة، و قاعدة الملازمة لا بد و أن تذكر في كبراها.

و أما أن العقل شرع من الداخل، و الشرع عقل من الخارج فهو صحيح في الجملة، كما ورد فيه الحديث.

المبحث الثالث: الملازمات العقلية غير المستقلة

، أي: حكم العقل المتوقف على شيء خارج عن حكمه. مثل الملازمة بين وجوب المقدمة و ذيها، إذ لو لا وجوب المقدمة في الخارج لما حكم العقل بهذه الملازمة، و أن الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء، إذ لو لا وجود المأمور به في الخارج، لا موضوع لحكم العقل بذلك.

و الملازمات غير المستقلة كثيرة، لأن الفقه مبني على الاستظهارات الصحيحة و الاستنباطات الحسنة، و هذه تتوقف على الذوق السليم و الذهن المستقيم، و هما من أهم أجنحة العقل الذي يطير بهما في العلوم مطلقا، و إنما نتعرض هنا لبعض مهماتها، و لا اختصاص لها بصناعة الاصول، بل كل علم و فن و صنعة تكون لها جهات خارجية تجري فيها الملازمات العقلية غير المستقلة.

المبحث الرابع: بناء العقلاء و سيرتهم

، و قد جرت سيرة العلماء على التمسك بهما، و هما من أهم الامور النظامية ما لم تردع عنه الشريعة الإلهية، و قد بنينا جملة كثيرة من الفروع خصوصا في المعاملات عليهما، فليراجع كتابنا في

ص: 196

الفقه.

ثم إن الملازمات العقلية غير المستقلة عبارة عما إذا كان طرفا الملازمة من غير العقل، و لكن الحاكم بها إنما هو العقل. بخلاف الملازمات المستقلة، فإن طرفي الملازمة و الحكم بها من مدركات العقل من دون توقف على صدور حكم من الشارع، كقاعدة التحسين و التقبيح العقليين، و وجوب شكر المنعم، و تبحث عنهما في علم الكلام و قاعدة الملازمة بين حكم الشرع و حكم العقل، و سيأتي البحث عنها في بحث الحجج.

أما الملازمات العقلية غير المستقلة فهي كثيرة، و عمدتها في فن الاصول امور:

اشارة

ص: 197

الامر الأول: الإجزاء

اشارة

إذا ورد ذكر من الأمر و تحقق امتثال من المأمور به كما قرره و جعله الآمر، فالعقل يحكم بالملازمة بين امتثال المأمور به على ما قرره الآمر و سقوط الأمر به، و هذا البحث - في الجملة - من صغريات المسألة المبرهن عليها في العلوم العقلية: من استحالة تخلّف المعلول عن العلة التامة المنحصرة، على ما يأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

تمهيد فيه امور:
الأول: لا ربط لهذا البحث بمبحث المرة و التكرار

الذي تقدّم البحث عنه، و لا بمبحث تبعية القضاء للأداء و عدمه الذي يبحث عنه في علم الفقه، لأن البحث فيهما إنما هو في مقام بيان أصل المأمور به و تعيين حدوده و قيوده شرعا بحسب الثبوت و مقام التشريع، و البحث في المقام في أنه بعد ثبوته بحدوده و قيوده شرعا هل يكون امتثاله موجبا لسقوطه أو لا؟ فلا ربط له بهما.

الثاني: الاستغناء عن كلمة (على وجهه) الواردة فى عنوان البحث

قد ذكر القوم في عنوان البحث: «الإتيان بالمأمور به على وجهه»، و أطالوا القول في بيان معنى الوجه - كما هي عادتهم في غالب الموارد - و نحن في غنىّ عن ذلك بعد إسقاط هذا اللفظ لعدم الفائدة فيه رأسا، و أبدلنا عنه بقولنا:

«كما قرره و جعله الآمر» بالمعنى الأعم من التقرير و الجعل حتى يشمل المجعولات الثانوية التسهيلية المتممة للجعل الأولى.

الثالث: هذا البحث يشمل الامر الواقعي و الاضطراري و الظاهري و الاعتقادي

الأمر إما واقعي، أو اضطراري و يعبّر عنه بالواقعي الثانوي أيضا، أو ظاهري يكون مفاد الأمارات و الاصول و القواعد المعتبرة، أو اعتقادي، و مورد البحث يشمل جميع هذه الأقسام الأربعة.

ص: 198

الرابع: المراد بالامتثال

بما له من العرض العريض، لا سيما في الصلاة و الحج لكثرة ما ورد من التسهيلات الامتنانية فيهما. و سقوط الأمر به أعم من القبول، لأنه عن القبول موانع كثيرة، كما له مراتب كثيرة، و بعض مراتبه ملازم لسقوط الأمر، و إن كان بعض مراتبه الاخرى ملازما للتقوى، فلا يختلط القبول بسقوط الأمر بالامتثال. إذا عرفت ذلك فنقول:

إن البحث في مسألة الإجزاء من جهات:
الجهة الاولى: في سقوط كل أمر بالنسبة إلى امتثاله

، كسقوط الأمر الواقعي عند امتثاله، و سقوط الأمر الظاهري عند امتثاله، و سقوط الأمر الاضطراري مع امتثاله، و سقوط الأمر الاعتقادي عند امتثاله، و هذا السقوط واضح لا ريب فيه، لأن الامتثال مطابقا للوظيفة المقررة فيه علة تامة لحصول الغرض، و هو داعوية الأمر للامتثال، و الداعوية وجدانية، و مطابقة المأتي به للمأمور به كذلك أيضا فلا بد من سقوط أمره، لأن فرض عدم السقوط إما لأجل عدم تحقق الداعوية، أو لأجل عدم مطابقة المأتي للمأمور به؛ أو لأجل دخل شيء آخر في السقوط.

و الكل خلف الفرض، أو لأجل الشك في القبول، و قد مر أنه أعم من الامتثال و سقوط الأمر، فيتعين أن يكون امتثال الأمر الواقعي مسقطا لأمره، فلا يبقى موضوع للامتثال بداعي الأمر بعد ذلك لسقوط الأمر.

و أما الامتثال بدواع صحيحة اخرى فلا بأس به رجاء للأصل، بل قد يكون راجحا إذ انطبق عليه عنوان حسن شرعا، و قد ورد في الصلاة المعادة: «إنّ اللّه تعالى يختار أحبّهما إليه»، و قوله تعالى: وَ جاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ.

و إذا انطبق عنوان المجاهدة في اللّه على الاتيان ثانيا يصير راجحا قهرا ما لم يكن من الوسوسة. و لا فرق في هذه الجهة بين الأوامر الواقعية و الاضطرارية و الظاهرية و الاعتقادية.

ص: 199

الجهة الثانية: في إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن التكليف الواقعي تفضيل الكلام فيه
اشارة

النفس الآمري عند رفع الاضطرار. و يمكن إدخال هذه الجهة، و الجهة الآتية في ما مر من الجهة الاولى بالنسبة إلى الأمر الواقعي بأن يقال: إن امتثال الأمر الواقعي بما له من الأطوار، و البروز و الشئون و عرضه العريض، يجزي عن الواقع، و لا ريب في أن الأوامر الاضطرارية و الظاهرية من أطوار الواقع، فلا تصير جهات البحث متعددة حينئذ. و كيف كان، فالاحتمالات الثبوتية فيها خمسة:

الأول: سقوط الواقع بالمرة خطابا و ملاكا فعلا في موارد الاضطرار، فلا واقع إلا ما استفيد من أدلة التكاليف العذرية، لأن الشارع مسلط على مجعولاته - وضعا و رفعا، و إتماما و تنقيصا - و لا محذور فيه من عقل أو شرع، و لكن مع بقاء الواقع على الشأنية و الاقتضاء في الجملة.

الثاني: وجود الواقعي الأولي و تطابق مصلحته مع الواقعي الثانوي من كل حيثية و جهة، لكن طولا لا عرضا حتى يلزم التخيير، و على نحو الاقتضاء لا الفعلية حتى يلزم تحصيلها.

الثالث: نفس الصورة مع لزوم تداركها.

الرابع: هذه الصورة مع استحباب التدارك.

الخامس: هذه الصورة مع عدم إمكان التدارك.

و هذه كلها صور فرضية في مقام الثبوت، و يمكن أن يمثل لها بفروع فقهية قد تعرضنا لها في مهذب الأحكام في موارد مختلفة.

و أما في مقام الإثبات فمقتضى إطلاقات أدلة التكاليف العذرية و الاضطرارية، و تسالم العلماء على حكومتها بالنسبة إلى الواقعيات الأولية و سهولة الشريعة المقدسة هو القسم الأول، إذ لا معنى للحكومة المتسالمة بينهم إلا تنزيل التكاليف الاضطرارية منزلة الواقعيات الأولية و إسقاطها عن الفعلية

ص: 200

و إبقاؤها على الشأنية الصرفة في الجملة، إلا أن يدل دليل على الخلاف في بعض الموارد، على ما فصل في الفقه.

امور تتعلق بالتكاليف الاضطرارية
اشارة

ثم إن في التكاليف الاضطرارية مباحث لا بأس بالإشارة إليها:

منها: المناط فى الاضطرار و العذر هل هو صرف الوجود أو العذر المستوعب؟

أن الاضطرار و العذر الذي هو موضوع هذه التكاليف هل هو صرف وجود الاضطرار في الموقتات، أو العذر المستوعب للوقت، فلا يجوز البدار إلى امتثالها في أول الوقت؟ مقتضى ما هو المرتكز في الاضطراريات إنما هو العذر المستوعب، و عليها تنزّل إطلاقات أدلة تلك التكاليف إلا مع الدليل على الخلاف، كما ورد في التيمم و التقية، فيرجع في غير المستوعب إلى قاعدة الاشتغال، و إطلاقات أدلة التكاليف الأولية إلا مع وجود دليل خاص في البين.

و منها: اذا ترك التكليف الاضطرارى و أتى بالتكليف الواقعى

أنه لو أتى المكلف في مورد التكاليف الاضطرارية بالتكليف الواقعي و ترك تكليفه الاضطراري، هل يجزي أو أنه لا يجزي؟ المسألة مبنية على بقاء الملاك في التكاليف الواقعية في مورد الاضطرار، فمع بقائه يصح بداعي الملاك، و مع عدمه لا وجه للصحة، إذ لا خطاب و لا ملاك فكيف يصح و بأي داع يؤتى به، فلا طريق لإحراز الملاك إلا إطلاق الخطاب من باب كشف المعلول عن العلة، و قد اختلفت الكلمات، ففي بعض الموارد يحكمون بالصحة، و في بعضها يحكمون بالبطلان، و في البعض الآخر يترددون في الفتوى مع عدم دليل خاص لهم أصلا.

و منها: فى اضطرار الشخصى أو النوعي

أن موضوع الاضطرار يلحظ بالنسبة إلى شخص المكلف دون النوع، فلو كان تكليف اضطراريا بالنسبة إلى شخص دون النوع، ينقلب تكليفه الواقعي إليه، و في العكس يبقى على تكليفه الواقعي. و هذه المباحث لا بد و أن ينقح الكلام فيها في الفقه.

الجهة الثالثة: في إجزاء الإتيان بما يصح الاعتذار به - كما في مورد الأمارات و الاصول، و القواعد المعتبرة - عن الواقع عند انكشاف الخلاف

فهو

ص: 201

من لوازم اعتبارها، و صحة الاعتذار بها، لأنها إن طابقت الواقع فلا ريب في الإجزاء، و إن خالفت فالمكلف معذور في ترك الواقع، لعموم أدلة اعتبارها و امتنان الشارع على امته في هذا الأمر العام البلوى، و حكومة أدلة اعتبارها على الواقعيات، و يشهد له الطريقة العقلائية في الطرق المعتبرة لديهم، فإنهم عند تبين الخلاف فيها يرتبون الأثر من حين تبين الخلاف من دون استئناف العمل من الأول، و هذا لسعة فضل اللّه تعالى أنسب. فكما أنه تعالى يسقط العمل المأتي به عن الاعتبار لأجل بعض الجهات، كذلك ينزل العمل غير المطابق للواقع منزلة الواقع.

و دعوى: أن العذرية و صحة الاعتذار مادامية، أي ما لم ينكشف الخلاف، لا دائمية. من مجرد الدعوى بلا شاهد و مخالفة لإطلاقات أدلة اعتبارها، و إجماعهم على الإجزاء عند تبدل رأي المجتهد، فإطلاق أدلة اعتبار مفاد الأمارات و الاصول و القواعد - تأسيسا كانت أو إمضائية - يقتضي الإجزاء مطلقا إلا في مورد الدليل على الخلاف، فلا مجرى لجريان قاعدة الاشتغال في المقام.

و لم يرد عن الأئمة عليهم السّلام في هذا الأمر العام البلوى لا سيما عند الإمامية المفتوح عندهم باب الاجتهاد حديث، و ما ورد في عدم إجزاء الرأي و النظر من الأخبار الكثيرة التي جمعها في كتاب القضاء من الوسائل، لا ربط لها بالمقام، بل المقصود منها الآراء الفاسدة الباطلة في مقابل الإمام عليه السّلام، لا ما حصل من الجد و الاجتهاد في أحاديثهم عليهم السّلام، فأي مانع من أن يكون المقام مثل أعمال العامة إذا استبصروا، حيث ورد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الصحيح: «كل عمل عمله في حال نصبه و ضلاله فإنه يؤجر عليه»، بل ما نحن فيه أولى بذلك كما لا يخفى، و ليس ذلك من التصويب و الانقلاب الباطل، بل هو تنزيلي تسهيلي لغير الواقع منزلة الواقع، و إسقاطه عن الفعلية لمصالح كثيرة، فبين المقام و بحث التصويب و الانقلاب بون بعيد جدا.

ص: 202

و لا فرق في جميع ما ذكرناه بين كون تبين الخلاف بالقطع، أو الظنون الاجتهادية، و قد تعرضنا لجملة من المباحث المتعلقة بالمقام في بحث الاجتهاد و التقليد، و في كتاب القضاء من مهذب الأحكام.

الجهة الرابعة: العمل بما حصل به الاعتقاد مع تبين الخلاف

، فإن كان هذا الاعتقاد مستندا إلى الاجتهاد الصحيح فهو من تبدل الرأي الذي أجمعوا فيه على الإجزاء، و إن كان من غيره فمقتضى الأصل عدم الإجزاء من غير دليل حاكم عليه. و اللّه تعالى هو العالم.

ص: 203

الامر الثاني: مقدمة الواجب

اشارة

يقع البحث في فن الاصول عن الوجوب المولوي الترشحي عن وجوب ذي المقدمة بالنسبة إلى مقدمته، بعد تسليم اللابدية العقلية التي تكون بين المقدمة و ذيها.

و إذا كان نفس الملازمة الواقعية بين طلب الشيء و طلب مقدماته مورد البحث، فيكون من المسائل العقلية غير المستقلة، و حيث يقع في طريق الاعتذار لدى المولى، فإنه يكون من المسائل الاصولية. و فيه ملاك المسألة الفقهية، و المسألة الكلامية أيضا، كجملة كثيرة من مسائل الاصول.

تقسيمات المقدمة:
التقسيم الأول: المقدمة إما داخلية محضة، كالأجزاء. أو خارجية كذلك،

كالفاعل، و الغاية. أو برزخ بينهما، كالشرط و المعد، فإن فيهما جهتين: التقيد، و نفس القيد، و من الجهة الاولى داخلية و من الجهة الثانية خارجية.

و يصح أن يقال: إن المقدمة إما داخلية بالمعنى الأخص، و هي الأجزاء. أو بالمعنى الأعم، و هي الأجزاء، و الشرط، و المعدّ.

و الكل صحيح و إن اختلف التعبير. كما أن بعض الأشياء برزخ بين الشرطية المحضة و الجزئية الصرفة، كالنية في العبادات - مثلا - فإن الفاتحة جزء للصلاة، و الاستقبال شرط لها، فالنية برزخ بينهما، كما فصلناه في الفقه.

و حيث أن المقدمة المبحوث عنها في المقام متقوّمة بالتغاير الوجودي مع ذيها، فالمقدمات الداخلية - و هي الأجزاء - خارجة عن مورد البحث، لاتحاد الكل مع تمام الأجزاء وجودا، و وجود أحدهما عين وجود الآخر كذلك عقلا

ص: 204

و عرفا، فلا اثنينية في البين حتى تتحقق المقدمية المتقوّمة بها. و التغاير الاعتباري و إن كان موجودا بينهما فإن الكل عين الأجزاء باعتبار الاجتماع، و الأجزاء الفعلية غير الكل مع قطع النظر عن هذا الاعتبار، لكن ليس هذا النحو مع التغاير مناط المقدمية عرفا، فوجوب الأجزاء عين وجوب الكل و بالعكس، فليس في البين إلا وجوب واحد منسوب إلى الكل بنحو الجمع، و إلى الأجزاء بنحو الانبساط.

و كذا الكلام في التوليديات، كالإحراق و الإلقاء في النار، فإنه ليس فيها إلا وجوب واحد منسوب إلى السبب المولد (بالكسر) و المسبب المولد عنه، فلا اثنينية في البين عرفا و إن كانت متحققة واقعا، فهي أيضا خارجة عن مورد الكلام في المقام.

التقسيم الثاني: قد قسّموا المقدمة إلى الشرعية، و العقلية، و العادية، و مقدمة الصحة، و مقدمة الوجود، و مقدمة الامتثال

و لا وجه لهذا التقسيم أبدا.

فإن الثلاثة الاولى إن كان بلحاظ أصل الدخالة و المقدمية فالجميع عقلية، لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه، و المركب بانتفاء جزئه، سواء كان المشروط أو المركب عقليا أو شرعيا أو عاديا، و لا حكم للأخيرين إلا ما حكم به العقل و لو حكما بشيء لكان إرشادا إلى حكم العقل.

نعم، لهما تنزل الفاقد للشرط أو الجزء منزلة الواجد في مجعولاتهما، لفرض استيلائهما عليها موضوعا و حكما، و لا ربط لذلك بأصل المقدمية التي هي مورد البحث.

و إن كان ذلك بلحاظ الجاعل فهو أجنبي عن بحث المقدمة، كما هو أوضح من أن يخفى.

و الرابع ليس إلا المقدمات الداخلية أو الخارجية، فلا وجه لتسمية اخرى و زيادة قسم آخر.

ص: 205

و الخامس يرجع إلى الرابع، فلا وجه لعدّه قسما مستقلا إن كان المراد الوجود الصحيح، و إن كان المراد مطلق الوجود فهو خارج عن مورد البحث قطعا، لأن البحث في مقدمة الواجب لا في مقدمة المسمّى، كما أنه لا بد من خروج مقدمة الوجوب عن مورد البحث أيضا، لأنه قبل حصول المقدمة لا واجب في البين حتى يترشح منه الوجوب إلى مقدمته، و بعد الحصول لا معنى للترشح، لأنه من تحصيل الحاصل.

و كذا لا ريب في خروج مقدمة الامتثال عن مورد البحث، إذ ليس فيه إلاّ اللابدية العقلية و ليس فيه وجوب مولوي ترشحي حتى يكون مورد البحث، و لو ورد دليل عليه لا يكون إلا إرشادا محضا فانحصرت المقدمة - التي تكون مورد البحث - في الخارجية و الداخلية بالمعنى الأعم.

التقسيم الثالث: قد قسّموا المقدمة بلحاظ الزمان الى المقارنة،

كالاستقبال للصلاة، و عربية الإيجاب و القبول في العقود مثلا. و المتقدمة، كتقدم الوصية على حصول الملكية للموصى له بعد موت الموصي في الوصايا التمليكية.

و المتأخرة، كالإجازة لعقد الفضولي في حصول الملكية من حيث العقد بناء على الكشف. فيلزم تخلل الزمان - قليلا كان أو كثيرا - بين العلة و المعلول في الأول، و تقدم المعلول على العلة في الثاني، و هما ممتنعان، كما ثبت ذلك في فن الحكمة بالدليل و البرهان، و العلة بجميع أجزائها و جزئياتها مقدمة على المعلول رتبة لا زمانا، كتأخر المعلول عن العلة فإنه رتبي فقط.

و المراد بأجزاء العلة و جزئياتها ما إذا تحققت في ضمن العلة التامة لا بدونها، إذ العلية و المعلولية من الامور الإضافية، فالأجزاء و الجزئيات غير المتحققة في ضمن العلة التامة أجزاء استعدادية لا فعلية، و الكلام في الثانية دون الاولى. و العلة التامة مقارنة مع المعلول زمانا و إن اختلفا رتبة، كقولك: «تحركت

ص: 206

اليد فتحرك المفتاح» فزمان الحركتين متحد، و لكن رتبة حركة اليد متقدمة على حركة المفتاح فإن الأخيرة مستندة إلى الاولى.

و قد وقعت في الشريعة المقدسة موارد انتقضت فيها القاعدة العقلية، منها ما تقدم فيها المعلول على العلة زمانا، كالعقود الفضولية بناء على الكشف، فإنه يحصل الأثر قبل حصول العلة التي هي الإجازة، و موارد تقدم فيها العلة على المعلول زمانا، كعقد الوصية التمليكية الحاصلة قبل الموت بزمان مع أن الملكية تحصل بعده و لو بزمان كثير، و كغسل المستحاضة قبل الفجر لصحة الصوم الحادث بعد الفجر.

و قد اضطربت كلماتهم في حل هذه المشكلة، و قد تعرضنا في الفقه لبعض الكلام، و لنشر لبعضه الآخر بما يناسب المقام. و قد اجيب عن أصل الشبهة بوجوه:

الأول: ما عن صاحب الكفاية أن الشرط إما شرط للوضع، كعقد الوصية للملكية بعد الموت، و الإجازة في العقود الفضولية لحصول الأثر قبلها. أو شرط للتكليف، كالعقد، و الإجازة لوجوب الوفاء. أو شرط للمكلف به، كغسل المستحاضة قبل الفجر لصحة صومها.

و مرجع الأولين إلى أن لحاظ الشرط عند الشارع دخيل في حكمه وضعا أو تكليفا، فاللحاظ هو المؤثر لا أن يكون الأثر للوجود الخارجي حتى يلزم المحذور، فما هو الشرط - و هو اللحاظ - مقارن، و ما هو متقدم أو متأخر لا ربط له بالشرطية فلا محذور في البين أصلا.

و فيه: أولا: أنه تصرف في ظواهر الأدلة بلا شاهد، بل على خلافه الشواهد.

و ثانيا: أن اللحاظ طريق إلى ما في الخارج لا أن تكون له موضوعية خاصة، و إذا كان كذلك، فالمحذور باق على حاله.

ص: 207

و مرجع الأخير - أي ما كان شرطا للمكلف به - إلى أن المتقدم أو المتأخر له دخل في صيرورة المكلف به معنونا بعنوان حسن، فصوم المستحاضة يصير ذا عنوان حسن بتقدم الغسل عليه يوجب بذلك صلاحيته للتقرب به، فيرجع إلى الشرط المقارن.

و فيه: أنه إن كان الشرط من حيث الوجود الخارجي فهو عين الإشكال قرر بوجه آخر، و إن رجع إلى شرطية اللحاظ فهو عين ما أجاب به عن شرط الوضع و التكليف، و مرّ بطلانه.

الثاني: ما عن بعض مشايخنا قدس سرّهم، فعن شيخنا المحقق العراقي قدّس سرّه أن المشروط في جميع تلك الموارد إنما هو الحصة التوأمة مع الشرط، فالشرط حينئذ قرين المشروط و حليفه، لا أن يكون متقدما عليه أو متأخرا عنه.

و فيه: أن ذلك إن كان بحسب الوجود اللحاظي فهو عين ما تقدم عن صاحب الكفاية، و قد أشكلنا عليه. و إن كان بحسب الوجود الخارجي فالشبهة باقية، مع أن الحصة من الاعتبارات الذهنية لا الموجودات الخارجية.

الثالث: أن أصل المحذور إنما هو في العلة الموجدة، أما ما توجب القابلية كالشروط و المعدات فلا محذور فيه.

و يرد عليه: أن حصول القابلية للوجود إن كان من ناحية العلة فهو عين المحذور، و إن كان من ناحية المعلول فهو باطل، كما ثبت في محله، راجع الأسفار.

الرابع: أن الشرط في موارد النقض إنما هو العنوان الانتزاعي المقارن مع المشروط، كما هو شأن كل أمر انتزاعي فإنه خفيف المئونة جدا، كتعقب العقد للإجازة في الفضولي، و تعقب عقد الوصية التمليكية بالموت، و اتصاف الصوم بسبق الغسل في المستحاضة، إلى غير ذلك مما يمكن فيها انتزاع شيء هو مقارن مع المشروط، و قد اختار ذلك شيخنا المحقق النائيني قدّس سرّه بعد جعل

ص: 208

القضايا التشريعية من القضايا الحقيقية.

و فيه: أنه خلاف ظواهر الأدلة و المنساق منها عرفا بلا دليل ملزم عليه من عقل أو نقل، مع أن كون القضايا المستعملة في تشريع الأحكام و تقنين القوانين - خالقية كانت أو خلقية - من القضايا الحقيقية مما لا يخفى على الأصاغر فضلا عن الأكابر.

الخامس: - و هو أحسنها - و يمكن أن يكون مقصود الجميع ذلك و إن قصرت عبائرهم عن الانطباق عليه، و هو: أن أصل الإشكال يختص بالعلل و المعلولات التكوينية و الموجودات المتحققة الأصيلة التي يدور نظم المباحث الدقية العقلية، و البراهين المتقنة الحكمية عليها، بشرط كون العلة بسيطة غير مركبة من الأجزاء المتدرجة الوجود، لأن فرض تركب العلة من تلك الأجزاء المتدرجة الوجود في الزمان فرض تقدم بعض أجزاء المؤثر على بعض، و إلا لزم الخلف و هذا أيضا مغالطة اخرى، فهنا غولط بين العلة البسيطة و المركبة التدريجية. نعم، في العلة المركبة بعد تحقق جميع الأجزاء و الشرائط يعتبر التقارن الزماني مع المعلول أيضا، من دون اعتبار التقارن الزماني بين كل جزء و جزء من أجزاء العلة.

و أما الاعتباريات التي يدور جعلها - بجميع جهاتها و خصوصياتها - على الاعتبار كيف ما اعتبره المعتبر، فلا موضوع للإشكال فيها بعد فرض عدم استنكار عرف المعتبرين لذلك، فربّ شيء يكون ممتنعا في التكوينيات يكون صحيحا في الاعتباريات، و كذا بالعكس. و لا ريب في أن جميع القوانين المعتبرة بجميع حدودها و قيودها من الاعتباريات الحسنة العقلائية. و هذه الشبهة - و أمثالها - إنما حصلت من الخلط بين الامور التكوينية و الامور الاعتبارية.

ص: 209

الأقوال في وجوب المقدمة
اشارة

وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط، إذ لا معنى للتبعية إلا ذلك. و اختلفوا في معروض الوجوب لعنوان المقدمة على أقوال، و تجري هذه الأقوال في الوجوب الشرعي الترشحي، و اللابدية العقلية أيضا:

الأول: ان معروض الوجوب لعنوان المقدمة هو ذاتها

ما نسب إلى المشهور من أنه ذات المقدمة بلا قيد و شرط، لأن المناط في المقدمة التمكن بها من إتيان ذيها، و هذا ينطبق على الذات بلا قيد و لا شرط.

الثاني: انه ذات المقدمة عند ارادة ذيها الاشكال عليه

ما يظهر عن صاحب المعالم قدّس سرّه من أنه ذات المقدمة عند إرادة ذيها، لأن عنوان المقدمية متقوّم بالغير فلا بد من إرادته.

و فيه: أنه إن أراد ما هو المتعارف من أن إتيان المقدمة إنما هو عند إرادة ذيها، فهو مع أنه مخالف لما تسالموا عليه من أن وجوبها في الإطلاق و الاشتراط تابع لوجوب ذيها.

يرد عليه.. أولا: أنه لا وجه لتعليق الوجوب على الإرادة مطلقا، و إلا ينسلخ الوجوب عن وجوبه.

و ثانيا: أنه لا يتم في المقدمات التوصلية غير المتوقفة على القصد و الإرادة فضلا عن قصد ذيها، و ما كانت منها عبادية يغني أمرها النفسي في عباديتها، فينطبق عليها عنوان المقدمية قهرا - قصد ذاها أو لم يقصد -

الثالث: انه ذات المقدمة مع قصد التوصل الى ذيها، ذكر المحتملات من هذا القول، الاشكال عليها

ما عن الشيخ الأنصاري قدّس سرّه من أن معروض الوجوب ذات المقدمة مع قصد التوصل بها إلى ذيها، لأن حيثية المقدمية حيثية التوصل بها إلى ذيها فلا بد من قصد ذلك في ثبوتها و تحققها، و هذا أخص من قول صاحب المعالم، لأن ما قصد به التوصل بها إلى ذيها واجبة على كلا القولين، فإن قصد التوصل قصد إجمالي لإرادة ذي المقدمة، و ما لم يقصد بها التوصل إن كانت

ص: 210

مقرونة بإرادة ذي المقدمة فواجبة على قول صاحب المعالم دون الشيخ، فتتحقق الأخصية حينئذ و إن لم يقترن بها، فلا وجوب على كلا القولين.

ثم إن محتملات مراد الشيخ قدّس سرّه من قوله أربعة:

أحدها: اشتراط وجوب المقدمة بقصد التوصل، فيكون وجوبها مشروطا و وجوب ذي المقدمة مطلقا، و هذا خلاف تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها، كما مر و الشيخ يعترف به في فقهه و اصوله.

ثانيها: أن ذلك من باب غلبة الوقوع في الخارج، حيث أن المقدمة إنما يؤتى بها غالبا بقصد التوصل بها إلى ذيها، لا أن يكون ذلك من الاشتراط و التقييد الاصطلاحي، و هذا حق و وجداني لكل أحد، و ليس ذلك على نحو التقوّم بحيث لو أتي بها غفلة، أو بقصد عدم التوصل لم يتحقق وجود المقدمة، بل المشهور يقولون بتحقق الواجب حينئذ بخلاف ما يظهر من قول الشيخ، فلا وجوب لذيه بناء على اعتبار قصد التوصل في الاتصاف بالوجوب.

ثالثها: أن قصد التوصل دخيل في ترتب الثواب أو الامتثال فقط، لا في الاتصاف بالوجوب، و هذا بالنسبة إلى ترتب الثواب صحيح، لكنه ليس من محل الكلام، لأن البحث في معروض الوجوب لا في استحقاق الثواب، مع أن اعتبار ذلك في ترتب الثواب أيضا أول الدعوى، كما حررناه في الفقه.

و أما دخله في الامتثال فهو مردود: بأن المقدمة لغة و عرفا و شرعا ما يتمكن بها المكلف من إتيان ذيها، و ليس موضوع الوجوب - شرعيا كان أو عقليا - إلا هذا، و لا ينفك ذلك من قصد التوصل إجمالا و ارتكازا، فيكون اعتبار قصد التوصل بعد ذلك من قبيل لزوم ما لا يلزم، و إن كان مراد الشيخ قدّس سرّه من اعتبار قصد التوصل هذا المعنى الإجمالي الارتكازي، فهو صحيح لا إشكال فيه.

رابعها: اشتراط ذات مقدمية المقدمة.

و فيه: أنه خلاف الوجدان في التوصليات، و خلاف الأصل و الإطلاق في

ص: 211

التعبديات، و خلاف مبنى الشيخ في فقهه.

الرابع: اعتبار ترتب ذى المقدمة خارجا على المقدمة الاشكال عليه بوجوه، و ابطالها، التحقيق فى المقام

ما عن صاحب الفصول من اعتبار ترتب ذي المقدمة خارجا على المقدمة في الوجوب الترشحي، لأنه لا فعلية للمقدمة إلا بذلك، و هذا هو الذي اصطلح عليه بالمقدمة الموصلة. و اشكل عليه بوجوه كلها باطلة:

منها: أنه إن كان قيدا للوجوب فهو من تحصيل الحاصل، و هو باطل. و إن كان قيدا للواجب فهو من الدور الباطل، لتوقف ذي المقدمة على المقدمة، و توقف المقدمة على ذيها، و هذا هو الدور.

و فيه: أنه لا يكون قيدا للوجوب و لا للواجب حتى يلزم المحذور، بل مراده قدّس سرّه أن فعلية وجوب المقدمة تدور مدار فعلية وجوب ذيها، لأنهما من المتلازمين المتكافئين قوة و فعلا، فكما لا محذور في التلازم في مطلق المتلازمين من كل جهة فليكن المقام أيضا كذلك.

منها: أنه يلزم كون شيء واحد واجبا نفسيا و واجبا غيريا، لأن ذا المقدمة واجب نفسي بذاته، و من حيث كونه قيدا للمقدمة يصير واجبا غيريا.

و فيه.. أولا: أنه لا محذور فيكون شيء واحد واجبا نفسيا و غيريا من جهتين، كصلاة الظهر مثلا، فإنها واجبة نفسا بذاتها و من حيث كونها شرطا لصلاة العصر تتصف بالوجوب الغيري، فليكن المقام كذلك.

و ثانيا: أن ترتب ذي المقدمة على المقدمة ليس من التقييد الاصطلاحي حتى يلزم المحذور، بل المراد أن فعلية المقدمة و فعلية وجوبها تنتزع من فعلية ذي المقدمة خارجا على نحو القضية الحقيقية لا الشرطية.

و منها: أنه مستلزم للخلف، فإن ذات المقدمة أيضا لها مدخلية في ترتيب ذيها عليها، فيلزم كون الذات أيضا موردا للوجوب الترشحي، و هو قدّس سرّه لا يقول بذلك.

و فيه: أنه مسلم، لأن الذات أيضا له دخل في الترتب في الجملة، لكن

ص: 212

مدخلية الذات إمكانيته لا فعليته من كل جهة، و مراد صاحب الفصول المدخلية الأخيرة دون الاولى.

و منها: أنه بناء على المقدمة الموصلة ينحصر وجوبها بالعلة التامة المنحصرة. و لا يشمل غيرها، و هو خلاف الإطلاقات و الكلمات.

و فيه: أن الوجوب الفعلي من كل جهة منحصر فيها عند الجميع، و لكن الوجوب الشأني الاستعدادي يشمل غيرها بلا إشكال. و لا ينكرها صاحب الفصول و غيره.

و منها: أنه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري، لأن من أجزاء المقدمة الموصلة الإرادة و هي غير اختيارية، و إلا لزم التسلسل.

و فيه.. أولا: أنه لا اختصاص لهذا الإشكال بالمقدمة الموصلة، لتوقف كل واجب على الإرادة - نفسيا كان أو غيريا - موصلا أو غير موصل.

و ثانيا: يكفي في الإرادية و الاختيارية كون الإرادة بذاتها و نفسها مرادة و مختارة في صحة التكليف بها.

و ثالثا: لو كانت مرادة بإرادة زائدة على ذاتها، تكون جميع تلك الإرادات مندمجة في ذاتها لكمال سعة النفس، و هذا النحو من التسلسل لا امتناع فيه، كما ثبت في محله، و يعبّر عنه بالتسلسل اللايقفي، أي لا يمكن فرض العلية في مرتبة إلا و يمكن فرض علية اخرى فوقها، و هذا لا يستلزم الوجود الفعلي لسلسلة غير متناهية حتى يمتنع.

و منها: أن إتيان المقدمة يوجب سقوط طلبها من غير انتظار ترتب ذيها عليها.

و فيه.. أولا: أنه عين الدعوى.

و ثانيا: أن السقوط جهتي لا من جميع الجهات، و السقوط المطلق إنما هو بإتيان ذي المقدمة، و للمكلف تبديل المقدمة بمقدمة اخرى ما لم يأت بها.

ص: 213

و الحاصل: أنه قد اشتملت المقدمة على جهات و حيثيات:

إحداها: التمكن بها إلى ذيها.

ثانيتها: قصد ذيها إجمالا المندرج في قصد ذات المقدمة.

ثالثتها: التوصل بها إلى ذيها، و هي أيضا مندرجة في قصد المقدمة إجمالا.

رابعتها: ترتب ذيها عليها خارجا.

و هذه كلها جهات و حيثيات تعليلية، فيكون معروض الوجوب بالآخرة ذات المقدمة بنحو الاقتضاء، و ليست هذه الجهات دقيات عقلية فقط، بل العرف يعتبر هذه الجهات أيضا، فيصير النزاع بين الجميع جهتيا لفظيا، كما لا يخفى على المتأمل لانطباق جميع الأقوال على المرتكزات في مقدمات الأفعال الصادرة منهم، فأشار كل واحد من الأعلام إلى جهة من تلك الجهات بلا نزاع في حاق الواقع في البين.

ثم إن ما قلناه من أن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط، إنما هو في نفس الوجوب المقدمي من حيث هو مع قطع النظر عن دليل آخر. و أما بحسب الأدلة الخاصة فيمكن أن يكون وجوب المقدمة مشروطا بشيء مع قطع النظر عن ذي المقدمة، بل يمكن أن يجتمع فيه أنحاء من الوجوب.

الثمرات بين كونها من المسألة الاصولية أو غيرها

بعد ثبوت الوجوب الشرعي الترشحي للمقدمة يكون البحث فيها من المسائل الاصولية. لوقوعه في طريق استنتاج الحكم الفرعي، فيقال: هذه مقدمة الواجب، و كل مقدمة الواجب واجبة شرعا، فتجب هذه.

و كذا بناء على اللابدية العقلية، فيقال: هذه مقدمة الواجب و كل مقدمة

ص: 214

الواجب لا بد من إتيانها عقلا، فلا بد من إتيان هذه عقلا، و يستنتج منه الحكم الفرعي بواسطة قاعدة الملازمة، فيكون هذا الاستنتاج - سواء كان بلا واسطة أو معها - من ثمرات هذا البحث، و قد ذكروا ثمرات اخرى أيضا.

منها: فساد العبادة التي يكون تركها مقدمة لواجب أهم، كالصلاة في أول الوقت مع فعلية وجوب إزالة النجاسة عن المسجد، لأن ترك الصلاة حينئذ واجب بالوجوب المقدمي فيكون فعلها حراما، لأن الأمر بالشيء يكون نهيا عن ضده، فتقع فاسدة لأن النهي في العبادة يوجب الفساد.

و فيه: أن هذه الثمرة مبنية على مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده، و سيأتي - إن شاء اللّه تعالى - بطلان الاقتضاء.

كما أنها مبنية على أن النهي الذي يوجب فساد العبادة هو الأعم من النهي النفسي و الغيري و هو محل البحث أيضا.

و أما صاحب الفصول رحمه اللّه فأبطل هذه الثمرة بناء على ما اختاره من المقدمة الموصلة بأن ترك الصلاة مطلقا ليس بواجب، بل الواجب إنما هو الترك الموصل إلى الإزالة، و مع فعل الصلاة لا وجه لكون تركها مطلقا واجبا، فيصير فعلها صحيحا لوجود المقتضي و فقد المانع عن الصحة.

و أشكل عليه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه: بأنه لا ريب في أن ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة واجب فيصير نقيضه حراما - بناء على المقدمية - و نقيضه ترك الصلاة الموصل، و هو كلي له أفراد، منها نفس الصلاة فتصير فاسدة لأجل النهي المنطبق عليها انطباق الكلي على الفرد.

و أورد عليه في الكفاية: بأن الصلاة لازم للنقيض لا أن تكون عينه، و لا دليل على لزوم كون لازم النقيض محكوما بعين حكم النقيض، بل يجوز أن لا يكون محكوما بحكم في الظاهر أبدا.

نعم، لا بد أن لا يكون محكوما بحكم مغاير لحكم النقيض، لمكان

ص: 215

الملازمة بينهما.

و الحق أن إشكال الشيخ قدّس سرّه صحيح بحسب الأنظار العرفية المبنية عليها الأدلة الشرعية، و إشكال صاحب الكفاية لا بأس به بحسب الدقة العقلية، فكل منهما صحيح في مورده، و لكن الحق مع ما ذهب إليه الشيخ قدّس سرّه عرفا.

و منها: بر النذر لمن نذر إتيان واجب بإتيان مقدمة الواجب بناء على وجوبها و عدم البر بناء على عدم الوجوب.

و فيه: أنه مسألة فرعية تابعة لقصد الناذر، و مع الإطلاق و الغفلة عن هذه الحصة ينصرف إلى الواجب النفسي، و ليس ثمرة للمسألة الاصولية، لأنه لا بد و أن يستنتج منها الحكم الكلي.

و منها: عدم جواز أخذ الاجرة على المقدمة مع وجوبها، و جوازها بناء على عدم الوجوب.

و فيه: أنه لا دليل على عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب بالنحو الكلي، بل مقتضى الأصل، و قاعدة السلطنة جوازه إلا في موارد خاصة دل عليها الدليل بالخصوص على عدم الجواز، و هو تابع لدلالة الدليل عموما أو خصوصا، و قد فصّلنا المسألة في الفقه، فراجع.

و منها: حصول الفسق بترك واجب له مقدمات كثيرة، لتعدد ترك الواجب، فيتحقق الإصرار على المعصية.

و فيه: أنه ليس لترك واجب واحد إلاّ معصية واحدة إجماعا - تعددت مقدماته أو لم تتعدد - نعم، لو كان واجب نفسي مقدمة لواجب آخر و تركهما، تعددت المعصية، و لكنه خارج عن محل البحث، لأنه في الوجوب المقدمي الصرف دون الواجب النفسي.

و منها: اجتماع الوجوب و الحرمة لو كانت المقدمة محرمة، كالدخول في ملك الغير لإنقاذ النفس المحترمة.

ص: 216

و فيه: أنها إن كانت توصلية يصح التوصل بها إلى ذيها - قيل بوجوب المقدمة أو لا، و قيل بجواز الاجتماع أو لا - و كذا إن كانت تعبدية بناء على جواز الاجتماع.

نعم، بناء على الامتناع و تغليب جانب الحرمة لا تصح المقدمة العبادية، سواء قيل بوجوب المقدمة أو لا. فهذه الثمرة ساقطة أيضا.

إجراء الأصل في المقدمة

أما اللابدية العقلية الواقعية لإتيان كل مقدمة بالنسبة إلى ذيها من الفطريات و الوجدانيات لكل أحد، فلا يتصور الشك فيها حتى يجري فيها الأصل.

نعم، قد تتوجه النفس إليها و قد تغفل عنها، كما هو الشأن في جميع فطريات النفس و وجدانياتها، فإنه قد تكون مغفولا عنها، و قد تكون متوجها إليها، و لا ربط لذلك بالشك فيها.

و أما الوجوب الترشحي الشرعي فلا تجري البراءة العقلية بالنسبة إليها، لأنها تدور مدار العقاب لابتناء قاعدة قبح العقاب بلا بيان عليه، و لا عقاب في ترك المقدمة مطلقا إلا ما كانت عين ذيها خارجا، كما في التوليديات.

و أما البراءة الشرعية فلا محذور في جريانها، لكفاية مطلق الأثر الشرعي في مجريها، و لا ريب في أن مطلق الوجوب أثر شرعي.

الحق في المقام

و الحق في المقام وجوب مقدمة الواجب بالوجوب التبعي لذيها، فإنا نرى بالوجدان عند طلبنا لشيء تعلّق الطلب أيضا بالنسبة إلى مقدماته مع

ص: 217

الالتفات إليها و لو مع الغفلة عن اللابدية العقلية، بل ربما يجعل الأمر بالمقدمة أصيلا و الأمر بذيها تبعيا، فيقال: اركب السيارة و اذهب إلى الزيارة، فينطوي في الطلب التفصيلي لذي المقدمة طلب جميع المقدمات، انطواء الفرع في الأصل، و الإرادة الإجمالية في الإرادة التفصيلية الالتفاتية، هذا مع اتفاق العقلاء على وجود أوامر غيرية فيما بينهم، و وجود أوامر غيرية في الشرع أكثر من أن تحصى، و صحة استعمال الأمر فيها في المحاورات العرفية بلا شبهة.

و جعل ذلك كله إرشادا إلى الشرطية، و الجزئية و المانعية، و هذا لا ربط له بكون نفس الأمر الغيري إرشادا، كما لا يخفى. فالوجدان و الاتفاق على الوقوع من أكبر الأدلة عليه.

و بعد ذلك لا نحتاج إلى ما يقال: من أنها لو لم تجب فلا مانع من طرف الشارع في تركها، و مع الترك إن بقي الواجب على وجوبه فهو تكليف بما لا يطاق، و إلا انقلب الواجب المطلق مشروطا، و هو باطل.

و هذا الاستدلال فاسد من أصله، لأن عدم المنع من طرف الشارع في ترك الواجب لا يوجب التكليف بما لا يطاق، لتمكن المكلف من الإتيان به و حكم العقل باللابدية، فيصح العقاب على ترك الواجب حينئذ.

كما لا وجه للتفصيل بين السبب و غيره بدعوى وجوبها في الأول و عدمه في الأخير، لأن المسبب بدونه غير مقدور، و التكليف إنما توجه بالسبب، و ذلك لأن القدرة بالواسطة تكفي في توجّه التكليف، مع أنه ليس بتفصيل في وجوب المقدمة و إنما هو قول بتوجّه الوجوب النفسي إلى السبب فقط.

و كذا لا وجه للتفصيل بين الشرط الشرعي و غيره بالوجوب في الأول دون الأخير، بدعوى: أنه لو لا وجوبه شرعا لما جعله الشارع شرطا. فإنه باطل أيضا.

ص: 218

أما أولا: فلأنه مستلزم للدور.

و ثانيا: أن مناط المقدمية توقف ذي المقدمة عليها و دخالة المقدمة في ذيها، بلا فرق بين كون منشأ التوقف و الدخل عقليا أو شرعيا أو عرفيا.

ثم إنه يمكن جعل النزاع في مطلوبية المقدمة شرعا و عدمها من المنازعة اللفظية، فمن قال بالمطلوبية فيها أي المطلوبية الفعلية في ما إذا كان ملتفتا إليها تفصيلا، أو متوجها إليها كذلك، و من قال بالعدم أي في صورة الغفلة المحضة عنها بلا فعلية للطلب حينئذ، فتتحقق اللابدية العقلية فقط.

مقدمة المندوب و الحرام

أما مقدمة المندوب فإنها مندوبة بعين ما تقدم في مقدمة الواجب، بلا فرق في المطلوبية العرضية التي تكون للمقدمة بين مراتب الطلب، شديدا كان أم ضعيفا.

و أما مقدمة الحرام فلا ريب في الفرق بينها و بين مقدمة الواجب و المندوب، لأن انتفاء إحدى المقدمات في الاولى يوجب عدم التمكن للمكلف من ذي المقدمة، حيث أن المطلوب فيه الترك و هو يحصل بترك إحدى المقدمات بعكس الأخيرتين، لتوقفهما على إتيان جميع المقدمات، إذ المطلوب فيهما الفعل و هو متوقف على إتيان كل ما له دخل في التحقق. فتحرم إحدى مقدمات الحرام لا بعينها بناء على الملازمة، فلو أتى بجميع مقدمات الحرام إلاّ إحداها فترك الحرام، لم يأت بحرام غيري أبدا، لعدم تحقق ذي المقدمة، بل و لم يفعل ما يوجب التجري أيضا، لأن مورده إنما هو في ما إذا كان الفعل حراما اعتقادا و حلالا واقعا.

و في المقام لم تتحقق الحرمة الاعتقادية و لا الواقعية، و لا يبعد تحقق بعض مراتب التجري إن كان بانيا على إتيان الحرام على كل تقدير، فبترك

ص: 219

المقدمات، ينترك الحرام قهرا. هذا و قد ورد في الرشوة، و الربا، و الخمر ما يستفاد منه تعميم الحرمة الشرعية الغيرية لجملة كثيرة من مقدماتها، فراجع أبواب الوسائل عند تعرضه لها.

خاتمة البحث

قد ورد الثواب في جملة من مقدمات الواجبات أو المندوبات و هي كثيرة جدا. فإن قلنا بأن الثواب تفضل، و استحقاقه أيضا تفضل من اللّه يؤتيه بما يشاء على ما يشاء لمن يريد، كما هو المنساق من جملة من الآيات و الروايات - كما فصلنا الكلام في محله - فلا إشكال فيه، لأن تفضله تعالى غير محدود بحد، و لا يعلم منشأه إلا ذاته الأقدس، و حينئذ يسقط أصل البحث رأسا.

و إن قلنا: باختصاصه بالتكاليف النفسية العبادية، فيصح أن ينبعث الثواب من التكاليف النفسية العبادية إلى جميع مقدماتها، نظير ما ورد من أن اللّه تعالى يحفظ لصلاح الرجل أهله و جيرانه و أهل قريته، و في سياق هذا المعنى آيات و روايات كثيرة جدا، و هذا هو المرجو من سعة فضل اللّه غير المتناهي، فيكون التكليف النفسي من الواسطة في الثبوت لثواب جميع مقدماته، سواء أتى بالتكليف النفسي، أو منع عنه مانع شرعي.

قال تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ...، و قد ورد في أبواب السعي في قضاء حاجة المؤمن من الثواب و لو لم تقض الحاجة، و المشي الى الحج، و زيارة الحسين عليه السّلام و لو منع عن حصول المقصود مانع.

و لا يبعد حصول المبغوضية من بعض المحرمات النفسية إلى مقدماتها في الجملة أيضا، حصل الحرام النفسي أو لم يحصل، كما يشهد به الوجدان.

ص: 220

هذا كله لو لم تكن مقدمات الواجبات و المندوبات بنفسها مطلوبة بالذات و لم تكن مقدمة مبغوضة كذلك، و إلا فترتب الثواب و العقاب معلوم لا شبهة فيه.

ثم إنه لا إشكال في حرمة السفر لغاية محرّمة و وجوب الإتمام في مثل هذا السفر و ليس ذلك مبنيا على حرمة مقدمة الحرام، بل لأجل دليل مخصوص، كما فصلناه في المهذب، فراجع.

ص: 221

الامر الثالث: اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده

تمهيد

هذه المسألة أيضا من المسائل الاصولية العقلية غير المستقلة بناء على الملازمة، أو المقدمية. و أما بناء على أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده، أو أن النهي عن الضد جزء مدلوله، أو من لوازمه العرفية المتوقفة على الاستظهار من الأدلة، فتكون من مباحث الألفاظ.

و حيث أن الأولين باطلان، و الأخير يرجع بالآخرة إلى الملازمات العقلية، بل من بعض مراتبها، جعلناها من العقليات غير المستقلة.

ثم إن المراد بالاقتضاء في كلماتهم أعم من العينية و الجزئية و اللزوم مطلقا، إذ قال بكل قائل، فلا بد أن يكون مورد النزاع مجمع الأقوال.

كما أن المراد بالضد مطلق المعاند و المنافي، أي الضد العرفي لا خصوص الضد الاصطلاحي الحكمي، فيشمل الترك الذي يعبّر عنه بالنقيض.

و الضد الخاص، كالضدين اللذين لا ثالث لهما، و القدر المشترك بين الأضداد الوجودية الذي اصطلحوا عليه بالضد العام.

الأقوال في المسألة
1 - الترك:

فقد قيل فيه - الذي يعبّر عنه بالنقيض - بأن الأمر بالشيء عين النهي عنه بالمطابقة. و لكنه مردود بانتفاء العينية - لا المفهومية و لا الخارجية - وجدانا فيكون من مجرد الدعوى بلا دليل.

و قيل: بأنه جزء مفهومه فيدل عليه بالدلالة التضمنية، و فيه ما سبق تحقيقه

ص: 222

من أن الوجوب بسيط لا تركب في حقيقته. و إنما هو في مقام شرح الاسم تسهيلا للأفهام، فجعلوا المركب مشيرا إلى العنوان البسيط، و كم له نظير عقلا و عرفا، لا أن يكون التركب في مرتبة الذات و الحقيقة، كما لا يخفى على ذوي البصيرة.

و عن جمع أنه بالملازمة، لأن طلب الشيء يلازم مبغوضية تركه، و هذا وجه حسن ثبوتا و إثباتا.

2 - الضد العام و الخاص:
اشارة

و قد استدل على الاقتضاء فيهما بوجهين:

الوجه الأول: عن جهة الملازمة، و دليلهم

مركب من مقدمات ثلاث:

أولاها: وجوب كل ضد ملازم لعدم الضد الآخر فيما لا ثالث له، و عدم الأضداد الأخر فيما له ثالث، و هذه المقدمة من الواضحات التي لا ينكرها أحد.

ثانيتها: المتلازمان متحدان في الحكم، فلو كان أحدهما واجبا يكون الآخر أيضا كذلك، لاقتضاء التلازم ذلك، فإذا كانت إزالة النجاسة عن المسجد واجبة نفسية ذاتية فورية، يكون ترك الصلاة الملازم لها أيضا واجبا نفسيا ذاتيا، لمكان الملازمة بينهما خارجا.

ثالثتها: تقدم أن وجوب الشيء ملازم لمبغوضية نقيضه، فإذا كان ترك الصلاة الملازم مع وجود الإزالة واجبا نفسيا ذاتيا فوريا، يكون فعل الصلاة مبغوضا و حراما، لأن الفعل نقيض الترك و بديله بالوجدان فتفسد لا محالة، لأن مبغوضية العبادة عبارة اخرى عن فسادها، كما لا يخفى.

فالنتيجة أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده - خاصا كان الضد أو عاما -.

و يرد على هذا الاستدلال: بأن المقدمة الاولى و الأخيرة و إن كانت

ص: 223

صحيحة إلا أن المقدمة الثانية باطلة، إذ لا دليل من عقل أو نقل على أن التلازم الوجودي بين المتلازمين موجب للتلازم الحكمي أيضا بالنسبة إلى الحكم الواقعي.

نعم، لا يصح اختلافهما في الحكم الفعلي، و لكن يصح أن لا يكون الملازم محكوما بحكم فعلي ظاهري أبدا.

و ما يقال: من عدم جواز خلوّ الواقعة من الحكم، إنما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي النفس الأمري دون الظاهري الفعلي. نعم، لو كانت الملازمة موجبة لتحقق المصلحة أو المفسدة في اللازم فلا ريب في كونه موجبا للمشاركة في الحكم، و بذلك يمكن أن يجعل النزاع لفظيا، فمن قال بأن التلازم يوجب الاتحاد في الحكم، أي في ما إذا أوجب وجود الملاك للحكم أيضا.

و من قال بالعدم، أي فيما إذا لم يوجب ذلك.

و الحاصل: أن في مورد الملازمة الوجودية إما أن يكون التلازم الوجودي موجبا لوجود مناط الحكم في اللازم أو لا، و على الثاني إما أن يكون اللازم محكوما بخلاف حكم ملازمه فعلا، أو لا حكم له ظاهرا، أو تكون الملازمة موجبة للحكم بلا ملاك.

و الأول صحيح لا بأس به. و الثاني باطل. و الثالث لا بأس به. و الأخير باطل، لبطلان الحكم بلا ملاك.

الوجه الثاني: من جهة مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر

، و قد تشتّت أقوالهم في ذلك.

1 - فمن قائل بأن ترك أحدهما مقدمة لوجود الآخر، و بالعكس.

2 - و عن آخر أن ترك أحدهما مقدمة لوجود الآخر من دون عكس.

3 - و عن ثالث عكس ذلك.

4 - و عن رابع التفصيل بين الضد الموجود خارجا، فيتوقف وجود الآخر

ص: 224

على رفعه، و في غير هذه الصورة توقف في البين رأسا.

و هذه الأقوال كلها باطلة لا يمكن المساعدة عليها بوجه.

أما الأول: ففساده غني عن البيان، لأنه دور واضح بالعيان، إلا أن يقال: بأن التوقف من طرف الوجود فعلي، و من طرف الترك - الذي هو ضد العدم - شأني اقتضائي، إذ لا عليّة و لا معلولية في الأعدام، كما ثبت في محله - فلا محذور في هذا النحو من الدور - بل التعبير بالاقتضاء أيضا باطل، لأن هذه التعبيرات من شئون الوجوديات، و لا حظ للأعدام فيها بوجه.

و يمكن أن يقال: إن هذا صحيح في العدم المطلق و المقام من عدم الملكة، مع أنه لا ينافي أصل التوقف في الجملة، و إن لم تصح بعض التعبيرات بالنسبة إلى العدم.

و حق القول أن يقال: إن وجود أحد الضدين في ظرف عدم الآخر، و عدم الآخر في ظرف وجود ضده من قبيل القضية الحينية الحقيقية، و هذا حق لا ريب فيه؛ و لكنه لا ربط له بالمقدمية أصلا، هذا إذا اريد بالترك العدم. و إن اريد به الأمر الوجودي - الذي هو فعل اختياري للنفس - فلزوم الدور لا مدفع له.

و أما القول الثاني - و هو كون ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر من دون عكس - فقد استدل له بأن عدم المانع من أجزاء علة الشيء، و لا ريب في أن العلة بأجزائها و جزئياتها من مقدمات المعلول، و مقدمة الواجب واجبة فيكون فعلها حراما، لما تقدم من الملازمة بين وجوب الشيء و حرمة نقيضه.

فالنتيجة أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده من جهة المقدمية.

و اشكل عليه بوجوه..

الأول: أن العدم لا يصلح لأن يكون منشأ لتحقق الشيء، فلا وجه لمقدمية عدم المانع.

و فيه: أنه لم يقل أحد بصدور الوجود من العدم، بل المقصود أن عدم

ص: 225

المانع من شرائط قابلية المحل لوجود أحد الضدين، و عدم المانع ليس من العدم المطلق حتى لا يصلح لشيء أبدا، بل هو من عدم الملكة القابل لمثل هذه الامور باعتبار ملكته المضاف ذلك العدم إليها.

الثاني: أنه لا مانعية لوجود أحد الضدين عن الضد الآخر حتى يكون ترك أحدهما مقدمه لوجود الآخر، لأن وجود أحد الضدين مستند إلى إرادة فاعلة. و مع تحققه لا يكون المحل قابلا لوجود الضد الآخر، و عدم قابلية المحل لهما من اللوازم الذاتية للمحل، و الذاتي لا يتخلف و لا يعلل.

الثالث: ما عن الكفاية من منع المقدمية حتى بناء على التمانع بين الضدين أيضا، إذ لا منافاة بين أحدهما و وجود الآخر، بل بينهما كمال الملاءمة و المعية الخارجية، كما في عدم أحد النقيضين مع وجود الآخر بلا تقدم و لا تأخر حتى يكون ترك أحدهما مقدمة لوجود الآخر.

و فيه: أنه على فرض التمانع و أن عدم المانع له دخل في وجود الضد يكفي في المقدمية التقدم الرتبي العقلي، و هو يجتمع مع المعية الخارجية، كما في العلة التامة مع المعلول.

الرابع: بأنه على فرض تسليم التمانع و تسليم مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر، لا وجه لعروض الوجوب المقدمي من وجود الضد إلى ترك ضده، لما تقدم من أن مورد عروض الوجوب المقدمي إنما هو صورة تعدد وجود المقدمة مع وجود ذيها خارجا، و لا تعدد كذلك في المقام، فهو مثل الأجزاء الداخلية التي تقدم عدم اتصافها بالوجوب المقدمي.

الخامس: ما عن بعض الأعاظم من أنه من الدور الباطل، فإنه لو توقف وجود أحد الضدين على ترك الآخر توقف الشيء على عدم مانعة، لتوقف عدم الآخر عليه توقف الشيء على العلة التامة، فيثبت التوقف من الطرفين إلا أنه من أحدهما على نحو العلية التامة و من الآخر بغيرها، و لا ينافي ذلك أصل التوقف

ص: 226

في الجملة الذي هو مناط تحقق الدور الباطل.

و فيه: أن عدم الآخر لا يستند إلى وجود ضده؛ بل يستند إلى عدم إرادته مع إرادة ضده، و يكفي في عدم إرادته الإجمال و الارتكاز بلا احتياج إلى الالتفات التفصيلي، فيكون عدم إرادته منطويا في إرادة ضده من دون احتياج إلى إرادة مستقلة، كانطواء إرادة إجمالية في إرادة تفصيلية مما هو كثير شائع.

ثم إنه بعد بطلان أصل المقدمية رأسا يظهر بطلان القول الثالث، و هو مقدمية وجود أحد الضدين لترك الآخر من دون عكس، كظهور بطلان التفصيل بين تحقق الضد فيتوقف وجود الضد الآخر على رفعه، و بين فراغ المحل عن الضدين، فلا توقف في البين لابتناء ذلك كله على ثبوت المقدمية في الجملة، و قد أثبتنا بطلان المقدمية مطلقا، فلا يبقى موضوع لهذه الأقوال رأسا.

كما اندفع بما ذكر الشبهة المنسوبة إلى الكعبي أيضا حيث قال في تقرير الشبهة:

إن ترك الحرام متوقف على فعل من الأفعال فيكون إتيان ذلك الفعل مقدمة له، و ترك الحرام واجب، و مقدمة الواجب واجبة فيلزم من ذلك انتفاء المباح.

وجه الدفع.. أولا: ما أثبتناه من نفي المقدمية رأسا، فلا موضوع لأصل الشبهة.

و ثانيا: أنه يكفي في ترك الحرام وجود الصارف عنه، بأي وجه اتفق من جهة دينية أو دنيوية مطلقا. نعم، لو انحصرت علة ترك الحرام في فعل من الأفعال على نحو العلية التامة المنحصرة لا ريب في وجوب ذلك الفعل حينئذ.

و الحاصل: أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده مطلقا، لا بنحو الملازمة و لا بنحو المقدمية.

ص: 227

ثمرة البحث في مسألة الضد

و هي فساد العبادة التي تكون ضدا لواجب أهم بناء على الاقتضاء، فيكون تركها مقدمة للواجب الأهم، فيجب ترك العبادة من باب المقدمة فيكون فعلها محرما، لما مرّ من الملازمة العرفية بين وجوب الشيء و حرمة تركه، و يأتي أن النهي في العبادة يوجب الفساد فتفسد العبادة لا محالة، هذا بناء على الاقتضاء.

و أما بناء على عدم الاقتضاء - كما أثبتناه - فلا وجه للفساد أصلا، بل و كذا بناء على الشك في الاقتضاء و عدمه، لأصالة الصحة، و عدم المانعية في العبادة التي يكون تركها مقدمة لإتيان الواجب الأهم، مع أنه قد أثبتنا عدم الاقتضاء و استقرت عليه آراء المحققين، فيسقط أصل هذه الثمرة، لبطلان أصل المبنى و سقوطه.

و عن الشيخ البهائي قدّس سرّه بطلان الثمرة تخصصا، فقال: إن الثمرة إنما تتصور في العبادة المأمور بها عند ابتلائها بمزاحمة الضد الأهم، و هو غير ممكن لعدم إمكان صدور الأمر بالضدين من العاقل فضلا عن الحكيم تعالى، فتبطل العبادة من حيث عدم الأمر، فلا تصل النوبة إلى القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده أولا، و لا إلى أن النهي في العبادة يوجب الفساد، لأن كل ذلك مبني على إمكان تحقق الأمر للعبادة المبتلاة بالضد الأهم، و هو غير ممكن، و الاستدلال للبطلان بعدم المقتضي للصحة أولى من الاستدلال بوجود المانع عنها، كما لا يخفى.

و يرد عليه أولا: إمكان تصحيح العبادة المبتلاة بالضد الأهم لأجل الملاك، فلو سلّم عدم الأمر للتضاد فلا وجه لزوال الملاك و لا موجب له، إلا احتمال أن سقوط الأمر كاشف عن سقوطه أيضا، و هو باطل، لأن الملاك ليس معلول الأمر، بل الأمر معلول له، فسقوط المعلول لا يكشف عن سقوط العلة،

ص: 228

كما هو واضح.

و ما يقال: إنه لا يصح التقرب بالملاك مع النهي بناء على الاقتضاء.

نقول: إن النهي المانع عن صحة التقرب ما إذا كان تعلّقه بالعبادة بحسب الذات لا بالعرض، و المقام من الثاني دون الأول، إذ النهي تعلّق بترك الأهم، و حيث أن المهم ملازم خارجا مع ترك الأهم، يصير مورد النهي بالعرض لا بالذات. و بعبارة اخرى: النهي في المقام من باب الوصف بحال المتعلق لا الذات، و لا دليل على كون مثل هذا النهي موجبا للفساد، بل مقتضى الأصل عدمه.

و ثانيا: بإمكان إثبات الأمر بالضدين على نحو الترتب، كما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 229

الترتب
اشارة

لم يكن لبحث الترتب في كلمات القدماء عين و لا أثر، و إنما حدث عند متأخري المتأخرين و قد كتبت فيه رسائل، و كانت المسألة نظرية و كان الغالب على الكلمات الامتناع. و لكن المعروف في هذه الأعصار و ما قاربها الجواز.

و الترتب: عبارة عن صحة تصوير أمرين فعليين بالضدين - الأهم و المهم - في آن واحد - و هو آن قبل الإتيان بالمهم - و صلاحية كل منهما للداعوية، فيصح إتيان كل منهما فعلا بداعي الأمر الفعلي، و يتحقق الامتثال حينئذ، كما في سائر الموارد التي يمتثل فيها الأمر مع عدم تزاحم في البين.

و النزاع في الترتب إنما هو في مقام الامتثال و قدرة المكلف فقط، لا في مقام الجعل و الثبوت، إذ لا إشكال من أحد في صحة جعل المتزاحمين خطابا و ملاكا. فيصير أصل هذه المنازعة لفظيا، فمن يثبت قدرة المكلف على الامتثال يقول بوقوع الترتب لا محالة، و لكنه معترف بالامتناع مع عدم القدرة، و من يثبت عدم القدرة على الامتثال لا مناص له إلا القول بالامتناع، و هو معترف بالوقوع مع القدرة.

شروط الترتب:

يعتبر في صحة الترتب و وقوعه امور، و مع اختلال أحدها لا يبقى موضوع للصحة فضلا عن الوقوع، و هي:

الأول: وجود الملاك في كل واحد من المتزاحمين ثبوتا، و تمامية الحجة

ص: 230

على كل واحد منهما إثباتا، لما مرّ من أن المانع - على فرض تحققه - إنما هو منحصر بمرحلة قدرة المكلف على الامتثال. هذا مضافا إلى إجماع المجوزين و المانعين على اعتبار هذا الشرط.

الثاني: كون الأهم مضيّقا، سواء كان المهم أيضا كذلك أو لا، و سواء كان التضييق من جهة الملاك الذاتي - كإنقاذ الغريق - أو من جهة فورية الخطاب فورا ففورا، كإزالة النجاسة عن المسجد - مثلا - و الوجه في اعتبار هذا الشرط معلوم، لأنه لو لم يكن الأهم مضيّقا و كان موسّعا لما كان تزاحم في البين، لقدرة المكلف على الجمع بين الامتثالين، فلا تصل النوبة لبحث الترتب.

الثالث: كون الضدين مما لهما ثالث، و ألا يكون فعل أحدهما في ظرف ترك الآخر من الامور التكوينية، و يكون الأمر به حينئذ من الشارع إرشاديا لا أن يكون مولويا، و مورد البحث في الترتب إنما هو اجتماع الأمرين المولويين في آن واحد.

الرابع: انحصار مورد البحث بمرحلة قدرة المكلف فقط من دون أن يكون في البين مانع آخر من موانع التكليف، لأنه لا موضوع للخطاب مع وجود مانع عنه في البين، فلا يفرض اجتماع الخطابين في آن واحد حتى يتحقق موضوع الترتب.

الخامس: كون الأهم و المهم متعددين وجودا على ما هو المعلوم من كلماتهم، فلا يكون مورد تداخل الأغسال، و اجتماع الأمر و النهي - بناء على الجواز - من موارد الترتب، لفرض اتحاد الوجود في متعلق الخطاب فيهما.

السادس: إمكان فرض إطلاق خطاب الأهم و تقييد خطاب المهم بترك الأهم، و إلا فمع فرض بقاء إطلاق الخطابين من كل جهة، فلم يقل أحد بالجواز حينئذ.

و إذا تمت هذه المقدمات، فالبحث في جواز الترتب..

ص: 231

تارة: بحسب الدليل العقلي.

و اخرى: بحسب الاستظهار الصناعي الاصولي.

و ثالثة: بحسب الاعتبار العرفي.

أما الأول: فالمقتضي للجواز - و هو الملاك و الخطاب - موجود، و المانع عنه مفقود، فلا بد من الوقوع حينئذ، لأن ما يتوهم من المانعية امور تأتي الإشارة إليها في أدلة المانعين مع دفعها.

و أما الثاني - و هو الاستظهار الاصولي - فإن كان الخطابان عرضيين من كل جهة فلا ريب في الامتناع، و أما إذا كانا طوليين، أي كان خطاب المهم مشروطا بترك الأهم و لو عصيانا، فأي امتناع فيه حينئذ، لأن القدرة الطولية موجودة وجدانا، فأي امتناع في أن يقال: أزل النجاسة عن المسجد و صلّ، و إن تركت الأول عصيانا لا تترك الثاني بجعل الجملة الأخيرة بيانا لكيفية صدور الأمرين.

و أما الثالث: فالمحاورات العرفية أصدق شاهد على الصحة و الوقوع، يقول المولى: اسقني الماء و افرش سجادتي، و إن عصيتني في الأول فلا تعصني في الأخير.

إن قلت: لا ريب في الإمكان و الوقوع في مثل ما ذكرت من المثالين، لوقوع الاشتراط اللفظي فيه، فيدفع بذلك محذور الامتناع.

أقول: بعد ما جعلنا من المقدمات كون خطاب الأهم مطلقا و خطاب المهم مشروطا بتركه و لو عصيانا، فأي فرق بين الشرط اللفظي حينئذ و الشرط الواقعي السياقي العقلي في حاق الواقع صونا للكلام عن القبح و اللغوية، فإن مدار جميع هذه الامور على إمكان التصرفات العرفية المحاورية، فيصح بكلما أمكن للتصحيح طريق عرفي، بل العقلي إن أمكن بالدقة العقلية طريق للتصحيح، و ذلك لفرض أنهم أخرجوا المسألة عن العرفيات و أدخلوها في الدقيات.

ص: 232

الكلام في جواز الترتب

و استدلوا على امتناع الترتب بوجوه:

الأول: أنه من طلب الضدين و هو ممتنع عقلا و قبيح

، فيكون محالا بالنسبة إلى الشارع، لاستحالة صدور المحال منه تعالى.

و فيه: أنه طرد لطلب الضدين، لا أن يكون جمعا بينهما في الطلب، لما مرّ من كون المهم مشروطا بعصيان الأهم، فكيف يكون حينئذ طلبا للضدين؟!

و القول: بأن المشروط يصير مطلقا بعد تحقق شرطه، فيعود المحذور من الجمع في الطلب بين الضدين و عدم قدرة المكلف على الامتثال.

مدفوع: بأن المكلّف إن كان عاصيا في خطاب الأهم، كيف لا يكون قادرا على امتثال المهم، سواء كان خطاب المهم مطلقا أو لم يكن كذلك، و مع أنه لا إطلاق في الخطابين من كل جهة بل خطاب المهم ثبوتا مشروط بترك الأهم، فلا يكون الخطابان من الجمع في طلب الضدين.

إن قلت: الأمر بالمهم و إن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لفرض اشتراطه بعصيانه، و لكن الأمر بالأهم موجود في مرتبة الأمر بالمهم بداهة ثبوت المطلق في المشروط، و تحققه فيه كتحقق المقسم في الأقسام، فيلزم الجمع في الطلب بين الأمرين و الضدين و عدم قدرة المكلف عليه، كما لا يخفى.

قلت: مرتبة عصيان الأمر بالأهم و مخالفته غير مرتبة المهم، فلا اجتماع للأمرين في تلك المرتبة، و على فرض الاجتماع لا مانع من الجمع بين الأمرين و طلب الضدين إلا عدم قدرة المكلف على امتثالهما، و مع عصيان المكلف للأمر بالأهم، لا ريب في قدرته على إتيان الأمر بالمهم، فقد أقدر المكلف نفسه على الامتثال بعصيان أمر الأهم، و الوجدان يحكم بأنه حين امتثال الأمر بالمهم قادر عليه و عاص للأهم، فيكون مجمع العنوانين فعلا، و لا محذور فيه.

فآنات امتثال أمر المهم آنات عصيان الأهم، و بالعصيان تحقق القدرة للأمر بالمهم فتثبت فعليته لا محالة، إذ لا مانع في البين إلا من ناحية القدرة،

ص: 233

و المفروض أنه أقدر نفسه على الامتثال بالعصيان فارتفع المحذور.

فالأقسام في الأمر بالضدين ثلاثة: عصيانهما معا، و عصيان أحدهما و إطاعة الآخر، و إطاعتهما معا في آن واحد، و العقل حاكم بإمكان الأولين و امتناع الأخير، و الترتب المبحوث عنه في المقام من الثاني لا الأخير، فلا وجه لتوهم الامتناع.

إن قلت: هذا إذا كان عصيان الأمر بالأهم آنيا، كما في الغريق المشرف على الهلاك، فإن عصى و لم ينقذه و شرع في الصلاة فمات الغريق.

و أما إذا كان تدريجيا فلا يتحقق العصيان إلا بعد الفراغ من المهم، فلا يتحقق شرطه حين الاشتغال بإتيانه، فلا يثبت موضوع الأمر حينئذ بالنسبة إليه أصلا، لفرض أن موضوعه عصيان أمر الأهم و المفروض عدم تحققه إلا بعد الفراغ من المهم.

قلت: في كل آن من آنات إتيان المهم عصيان ترك الأهم فهو منبسط على جميع الآنات انبساط الظلمة على الساعات، لفرض وجوبه فورا ففورا، ففي كل آن عصيان فعلي و مخالفة عملية للأهم و يتحقق بذلك موضوع أمر المهم، مع إمكان أن يكون الشرط عزم المكلف على العصيان، و كونه في مقام الهتك و العصيان، كما يجوز جعل العصيان الخارجي على نحو الشرط المتأخر شرطا للأمر بالمهم. و تقدم أنه لا محذور في الشرط المتأخر في الاعتباريات، شرعية كانت أو عرفية.

الثاني: - مما استدل به على امتناع الترتب - أن جوازه مستلزم لتعليق وجوب المهم على إرادة المكلف و اختياره، فيلزم خروج الواجب عن وجوبه

، لأنه إن اختار ترك الأهم يجب المهم، و إلا فلا يجب، مع أنه من تعليق الواجب على العصيان و مستلزم لتعدد العقاب عند تركهما معا، و هو بعيد عن ساحته تعالى.

ص: 234

و يمكن المناقشة فيه: أما تعليق الوجوب على الاختيار و العصيان فكثير في الفقه، كتعليق وجوب القضاء على ترك الأداء و عصيان أمره، و كتعليق الكفارات على ارتكاب المحذورات في الصوم و الإحرام و غيرهما مما هو كثير.

و أما الأخير فيمكن أن يقال بفعلية عقاب الأهم و تداخل عقاب المهم فيه عند تركهما معا، و لا محذور فيه من عقل أو شرع، فيكون منشأ إمكان تعدد استحقاق العقاب إمكان تعدد الخطاب حقيقة أو اعتبارا أو انحلالا، كما في الواجبات الكفائية. هذا بحسب القواعد، و أما التفضلات الإلهية على عبيده فهي أمر خارج عن درك عقولنا.

ثم إنه قد اعترف القائلون بامتناع الترتب بإمكانه و وقوعه في العرفيات، و هذا تهافت منهم من حيث لا يشعرون، فإن أدلة الشرعيات منزلة على العرفيات، و الدقيات العقلية بمعزل عن الشرعيات، كما هو أوضح من أن يخفى على الأصاغر فضلا عن الأكابر.

الثالث: أنه على فرض صحته و إمكانه ثبوتا، فالأدلة قاصرة عن إثباته

، لأنه خلاف المتفاهم العرفي المنزلة عليه الأدلة الشرعية، إذ ليس كل ما هو ممكن ذاتا بواقع خارجا.

و فيه: أن الترتب من المداليل السياقية، نظير المفاهيم، و الجمع العرفي عند أهل المحاورة، و إذا اعترف من ذهب إلى امتناع الترتب شرعا بوقوعه عرفا، فلا وقع لهذا الاستدلال أصلا.

فإذا ورد خطاب مطلق بالأهم و كذا بالنسبة إلى المهم، و تحققت شروط التزاحم، فإما أن يسقطا معا، أو يسقط الأهم دون المهم، أو يكون بالعكس، أو يثبتان معا.

و الأول باطل عند الكل، و الثاني ترجيح المرجوح على الراجح، و الثالث إسقاط لأحد الخطابين بلا وجه مع إمكان إبقائه، فيكون المتعين هو الأخير عقلا

ص: 235

و عرفا.

ثم إنه يكفي في تأخر الامتثال عن الأمر، و كذا تأخر عصيانه عنه، التأخر الرتبي فقط. و لا يعتبر التأخر الزماني، لعدم دليل عليه، بل مقتضى الأصل عدم اعتباره، فيكون أول آن الشروع في امتثال المهم و عصيان الأهم رتبة ثبوت الأمرين معا، فتتحقق الإطاعة و العصيان في الرتبة المتأخرة قهرا، فيصح أن يكون عصيان أمر الأهم شرطا مقارنا للأمر بالمهم، أو البناء على العصيان شرطا متقدما، أو تحققه خارجا شرطا متأخرا، و الكل صحيح لا بأس به.

هذه خلاصة الكلام في الترتب.

ص: 236

الامر الرابع: النهي عن الشيء هل يوجب الفساد و هو على قسمين:

القسم الأول: النهي في العبادة

تمهيد:
اشارة

يمكن جعل هذا المبحث كلاميا إن كان مورد البحث هكذا: «المفسدة في الشيء تسقطه عن صلاحية التقرب به إلى المعبود». كما يمكن أن يجعل فقهيا إن كان هكذا: «في العبادات المحرمة تجب الإعادة أو القضاء». كما يصح جعلها من الملازمات غير المستقلة الاصولية إن عنون هكذا: «كل عبادة منهي عنها فاسدة عقلا». و القوم جعلوه من الأخير، و حيث لم يعقدوا في الاصول بحثا مستقلا للملازمات أدرجوه في مباحث الألفاظ.

و كيف كان، فهذا البحث إنما يجري في مقام الثبوت و الإثبات معا، فعلى الأول يبحث عن أنه هل يكون ملازمة واقعية بين النهي عن العبادة و فسادها؟ و على الثاني هل يدل النهي بإحدى الدلالات المعتبرة اللفظية على فساد مورده إن كان عبادة؟ و لا وجه للاختصاص بالأخير - كما عن الكفاية - بدعوى أن في جملة الأقوال قولا بدلالة النهي على الفساد مع إنكار الملازمة رأسا، فلأجل

ص: 237

شمول مورد البحث لهذا القول لا بد من الاختصاص. و ذلك لأن القول الذي ثبت فساده بالدليل لا وجه لتغيير عنوان البحث لأجله.

و هذا البحث مغاير مع بحث اجتماع الأمر و النهي عنوانا و عرفا و دقة، لأن البحث في المقام في أن النهي بعد تعلّقه بالعبادة يوجب فسادها؛ و في مسألة الاجتماع في أن النهي هل يتعلق بالعبادة مع تعدد الجهة أو لا؟ فالفرق بين البحثين ظاهر، و تقدم في أول مسألة الاجتماع. فراجع.

و لا بد من التنبيه على امور:
الأول: إطلاق النهى يشمل جميع أقسامه الكلام فى النهى التبعي

إطلاق النهي يشمل كل ما يسمى نهيا نفسيا كان - كالسجود للصنم - أو غيريا، كقوله عليه السّلام: «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه»، أصليا كان - كما في المثالين المتقدمين - أو تبعيا، كما في مورد ترك الأهم و الإتيان بالعبادة في ظرف الترك، بل و كذا النواهي التنزيهية أيضا إن فرض تعلّقها بذات العبادة، و لكنه فرض غير واقع، لأن النواهي التنزيهية متعلّقة بالجهات الخارجة عن ذات العبادة، لتقوم العبادة بالرجحان الذاتي، عرفا و شرعا و عقلا.

و لكن اتفاق الفقهاء على صحة العبادات و المعاملات المكروهة، و سيرة المتشرعة عليها، يخرج النواهي التنزيهية عن مورد البحث مطلقا، فيختص مورده بخصوص النهي التحريمي.

ثم إن دخول النهي التبعي مبني على كونه موجبا لسقوط العبادية خطابا و ملاكا، و إلا فمع بقاء الملاك يمكن تصحيح العبادة به بناء على الترتب، كما مر.

الثاني: المراد بالعبادة و اقسامها

المراد بالعبادة ما هو المرتكز في الأذهان - المعبّر عنها في الفارسية ب (پرستش) - أي الوظائف التي يتقرب بها إلى اللّه تعالى، سواء كان ذلك من لوازمها الذاتية، كالسجود، و قراءة القرآن، و الدعاء و نحوها مما يكون قصد الخلاف مانعا عن صحتها، لا أن يكون قصد القربة معتبرا فيها، أو متقومة بقصد القربة، كالصلاة و الصوم و الحج و نحوها، و يطلق على هذين القسمين

ص: 238

العبادة (بالمعنى الأخص) في اصطلاح العلماء، و هذا هو مورد البحث في المقام.

و قد تطلق العبادة على ما يمكن أن يقصد بها التقرّب إليه عزّ و جلّ، و يطلق عليها العبادة (بالمعنى الأعم)، فيشمل جميع المباحات و المندوبات التوصلية، بل ترك المحرمات أيضا، لإمكان قصد التقرب بالجميع، و ترتب الثواب عليه، كما تطلق المعاملات تارة على خصوص العقود و الإيقاعات، و اصطلح عليها بالمعاملات بالمعنى الأخص، و اخرى على ما يقابل العبادات بالمعنى الأخص، فيشمل الجميع، أي كلما لم يكن عبادة بالمعنى الأخص، و هذا هو المراد من قولهم في المقام، النهي في المعاملة لا يوجب الفساد، كما ستعرف.

الثالث: النسبة بين الصحة و الفساد و كونهما من الأمور الاعتبارية الاضافية

الصحة و الفساد من الاعتباريات الإضافية تنتزعان من مطابقة الشيء لما هو المطلوب منه و مخالفته له، و يطلق عليهما التمامية و عدمها، و لا يختصان بالمجعولات الشرعية أو العرفية، بل تجريان في التكوينيات أيضا، و حيث أنهما من الامور الإضافية فيمكن أن يتصف شيء واحد بالصحة و الفساد بالنسبة إلى شخصين، بل بالنسبة إلى شخص واحد من جهتين و حالتين.

الرابع: كيفية تعلق النهي بالشىء

النهي إما أن يتعلّق بذات العبادة، كقوله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ. أو بجزئها، كقوله عليه السّلام: «لا تقرأ العزيمة في المكتوبة». أو شرطها، كقوله عليه السّلام: «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه»، و يسري النهي في الآخرين إلى الذات أيضا عرفا، لأن التقرّب بالمشتمل على المبغوض مما يستنكر لدى العقلاء، هذا مع أن النهي بكلا قسميه - جزء كان أو شرطا - إرشاد إلى فساد المركب أو المقيد به، كما هو المعروف بين الفقهاء، فيكون فساد العبادة المنهي منها بقيدها من باب الوصف بحال الذات لا المتعلق، و هو

ص: 239

مثل فساد العبادة المنهي عنها بذاتها من غير فرق، إلا أنه بحسب الدقة العقلية يكون من باب الوصف بحال المتعلّق، لكن الأدلة غير منزّلة عليها، كما هو معلوم.

و بهذا يمكن أن يجمع بين الكلمات، و قد تعرضنا للأمثلة في (مهذب الأحكام) في موارد شتى، كالرياء في جزء العبادة، و قراءة سورة العزيمة، و القرآن بين السورتين، و الزيادة العمدية و غير ذلك مما هو كثير، و الكبرى واحدة و إن تعددت الصغريات.

الدليل على اقتضاء النهي في العبادات - الفساد

مما يشهد به وجدان كل عاقل أن التقرب إلى المعبود بما هو مبغوض و منفور لديه مستنكر و قبيح و باطل، فهذه المسألة مما يكفي نفس تصورها بالاستدلال عليها، و تكون من القضايا التي قياساتها معها.

و لو شك في المسألة الاصولية في أنه هل تثبت الملازمة بين النهي و الفساد ثبوتا؟ فمقتضى الأصل عدم الثبوت بالعدم الأزلي، فإن العدم النعتي ليست له حالة سابقة، كما هو واضح، مع أن نفس الشك في الثبوت و عدمه يكفي في عدم الثبوت، فلا بد من قيام حجة معتبرة عليه، و إلا فمقتضى الأصل عدم الاعتبار، و كذا لو شك في دلالة النهي عليها في مقام الإثبات بإحدى الدلالات المعتبرة، فبالأصل الجاري في عدم الدلالة بالعدم الأزلي تنتفي تلك الدلالة، مع أن الشك في ثبوت الدلالة يكفي في عدمها، كما مرّ فتكون النتيجة في المسألة الاصولية مطلقا عند الشك فيها عدم إحراز الفساد، بلا فرق في ذلك بين العبادات و المعاملات، فيصح التمسك بإطلاقات الأدلة و عموماتها للصحة لو لم يكن التمسك بها من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، لا سيما في العبادات - لما تقدم آنفا - من أن قبح التقرّب إلى المعبود بما هو

ص: 240

مبغوض لديه من الامور الارتكازية لدى كل عابد. هذا حكم الأصل في المسألة الاصولية.

و أما الأصل العملي في المسألة الفقهية، فهي من صغريات الأقل و الأكثر في العبادات، فإن خروج معلوم الفساد عن الإطلاقات و العمومات أمر معلوم، و لكن خروج مشكوك الفساد غير معلوم. فمن قال في الأقل و الأكثر بالبراءة، يقول بها هنا أيضا، و من قال فيه بالاحتياط، يلزمه القول به في المقام.

لكن الشأن في جريان العمومات و الإطلاقات مع تلك القرينة المعهودة في الأذهان - التي تعرضنا لها - إلا أن يقال: إن القرينة إنما تجزي فيما إذا كان الفساد محرزا بالحجة المعتبرة، و لذا اشتهر أن النواهي التحريمية في العبادات مطلقا إرشاد إلى الفساد.

و أما إذا شك فيه لأجل جهة من الجهات فلا مجرى لتلك القرينة المعروفة في الأذهان، فتصل النوبة إلى الأصل حينئذ، بلا فرق بين الجزء و الشرط، لأن تقييد الذات بكل واحد منهما يوجب اتصاف الذات بالمبغوضية و إن أمكن التفكيك عقلا. نعم، لو كان شيء واجبا في العبادة من دون تقييدها به جزء أو شرطا فلا يوجب النهي عنه فسادها، لفرض عدم تقييد في البين، سواء كان ذلك الشيء عبادة أيضا، كوجوب صلاة الظهرين - مثلا - لمن كان صائما في شهر رمضان، أو لم يكن عبادة، كإزالة النجاسة عن المسجد لمن كان معتكفا فيه، فلو فسدت صلاة الصائم في شهر رمضان لا يضر بصومه، و كتسليم الأجنبي على الأجنبية التي تشتغل بصلاة الفريضة فردت عليه السلام في أثناء الصلاة، و قلنا إن صوت الأجنبية عورة.

إن قلت: نعم، و لكن الأصل في العبادات المشكوكة البطلان مطلقا، و قد اشتهر أن العبادات توقيفية لا بد من الاقتصار على المعلوم صحتها التي علم

ص: 241

بصدورها من الشارع، فهي من هذه الجهة كالحجية، حيث أن مجرد الشك فيها يكفي في عدم الحجية، فلا يبقى موضوع حينئذ للتمسك بالإطلاقات و العمومات.

قلت: لا أصل لهذا الأصل من عقل أو نقل، و كون العبادات توقيفية مسلّم في الجملة، بمعنى أنها منوطة بجعل الشارع، و لكن بعد الجعل لا بد و أن يعمل فيما يشك في اعتباره فيها بالرجوع الى القواعد المعتبرة و الاصول المقررة، كما هي السيرة المعروفة عند الفقهاء.

إن قلت: إن مورد النهي في العبادة إما أن يكون نفس العمل من حيث هو، أو العمل مع قصد القربة. و الأول خارج عن مورد البحث، إذ لا عبادية ذاتية في غالب العبادات و إنما تكون عباديتها لأجل قصد القربة. و الثاني باطل من حيث التشريع، فلا يبقى موضوع لبحث أن النهي في العبادة هل يوجب الفساد أو لا؟

قلت أولا: أن هذه المغالطة لا تجري في ما إذا كانت عبادية العبادية ذاتية، كالسجدة، و قراءة القرآن، و الذكر و الدعاء و نحوها.

و ثانيا: أن متعلّق النهي إنما هو العمل مع قصد القربة، و الفساد ينتهي لا محالة إلى النهي و هو العلة الأولية الذاتية للفساد، و مع وجود العلة الذاتية لا وجه لاستناد الفساد إلى العلة العرضية و هو التشريع، لأن ما بالذات أولى بأن يعلل به، بل هو المتعين، لانتهاء العلة العرضية بالآخرة إلى الذاتية.

و الحاصل: أنه ليس في البين أصل عملي في المسألة الفرعية - عند الشك في أن النهي عن العبادة يدل على الفساد - أو لا يستفاد منه بطلان العمل و فساده، لكن مع تعلّق النهي بحجة معتبرة لا وجه للشك، لما ذكرناه من الارتكاز العرفي و الملازمة بين النهي عن العبادة و فسادها عند العقلاء، فيكون الشك في الفساد بعد تعلّق النهي من مجرد الفرض فقط.

ص: 242

القسم الثاني: النهي في المعاملات

النهي في المعاملات على أقسام ثلاثة:
الأول: أن يكون إرشادا إلى الفساد

، سواء تعلّق بالمنشإ في الإيقاعات، أو بأحد الطرفين في العقود، كإيقاعات الصبي و المجنون و عقودهما، أو بأحد العوضين في العقود، كبيع الخمر و الكلب مثلا. أو بالمورد في الإيقاعات، كالبطلان مع فقد الشرط مثلا. أو بمطلق التسبب، كبيع المنابذة و نحوها.

و لا ريب في الفساد حينئذ، لفرض أن النهي إرشاد إليه، كما إذا كان النهي الوارد في العبادة إرشادا إلى الفساد فإنه لا إشكال في فسادها، بلا فرق بين العبادات و المعاملات من هذه الجهة و في هذا القسم من النهي.

الثاني: ما إذا كان النهي تكليفيا محضا

، كالنهي عن البيع في وقت النداء، و عن غسل الثوب المتنجس بالماء المغصوب، فلا ريب في الإثم لتحقق المخالفة، كما لا ريب في ترتب الأثر و عدم الفساد للإطلاقات و العمومات، و أصالة الصحة و عدم منشأ للفساد، لأن منشأه عدم صحة التقرّب بالمبغوض، و لا موضوع له في المعاملات أصلا، لعدم اعتبار قصد التقرّب فيها، فمقتضى أصالة الصحة و العمومات و الإطلاقات الصحة في جميع موارد الشك.

نعم، مقتضى أصالة عدم ترتب الأثر و عدم النقل و الانتقال هو الفساد لو لا العمومات و الإطلاقات، و أصالة الصحة، الدالة كل ذلك على النفوذ و الصحة.

ص: 243

و توهم: أن التمسك بالإطلاق و العموم فيها مع الشك، تمسك بالدليل في الموضوع المشكوك فيه.

مردود: بأن المناط في المعاملات صدق العنوان عرفا، و مع الصدق كذلك يصح التمسك بالدليل عند الشك في اعتبار شيء أو مانعية شيء شرعا، و مع عدم الصدق العرفي لا يجوز، و المفروض هو الأول.

الثالث: ما إذا لم يستظهر من الأدلة أن النهي إرشاد إلى الفساد حتى يدل على البطلان

، أو تكليفي محض حتى لا يتحقق البطلان. و مقتضى الإطلاق و العموم و أصالة الصحة، عدم البطلان في هذا القسم أيضا، و المرجع في تعيين كون النهي تكليفيا محضا أو أنه إرشاد إلى الفساد، القرائن المعتبرة من نص أو إجماع معتبر.

ثم إنه قد يستدل للفساد بمطلق النهي التكليفي بالتعليل الوارد في نكاح العبد بدون إذن سيده: «بأنه لم يعص اللّه و إنما عصى سيده فإذا أجاز جاز».

بدعوى: أنه يدل على أن في كل عقد أو إيقاع تحققت فيه معصية اللّه تعالى يكون باطلا.

و فيه: أن المراد بقوله عليه السّلام: «إنه لم يعص اللّه» أنه لم يرتكب ما لم يأذن به اللّه تعالى حتى يكون باطلا، كنكاح المحارم مثلا، فإن مقتضى الإطلاقات و العمومات أن كل نكاح مأذون فيه من الشارع إلا إذا قام الدليل على فساده بالخصوص. نعم، لا بد للعبد من الاستئذان من سيده في النكاح لأنه مملوك له، فحيث ارتكب العبد ما لا يأذن به سيده، يتوقف لزوم عقد نكاحه على إذن السيد و إجازته، فيكون مفاد الحديث أن العبد لم يتركب ما لم يأذن اللّه تعالى في صحة نكاحه - كنكاح المحارم - حتى يقع باطلا رأسا و لا ينفعه إذن السيد، و إنما ارتكب ما لم يأذن سيده، فإذا أذن نفذ، و يدل عليه صحيح ابن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه، أ عاص للّه تعالى؟ قال عليه السّلام:

ص: 244

عاص لمولاه. قلت: هو حرام. قال عليه السّلام: ما أزعم أنه حرام». و المراد بالحرام الحرمة التي لا تزول برضاء السيد.

ثم إنه قد قيل: بدلالة النهي على الصحة، لأن تعلّقه بشيء لا بد و أن يكون بلحاظ أثره المترتب عليه، و الفساد لا أثر له.

و فيه: أنه إن أراد الصحة الفعلية من كل حيثية فبطلان هذا القول غني عن البيان في العبادات، بل و في المعاملات أيضا إن كان النهي إرشادا إلى الفساد.

و إن كان المراد الكشف عن الصحة لو لا النهي فهو حق لم يختلف فيه أحد.

و الحمد للّه رب العالمين

تمّ الكتاب

ص: 245

ص: 246

الفهرس

المدخل 5-6

المقدمة - و فيها أمور عامة - 7-48

الأمر الأول: تعريف الأصول، و غايته، و مرتبته، و فضله 7-8

الأمر الثاني: يتقوم كل علم بالموضوع و المسائل و المبادئ و البحث في ذلك 8-9

الأمر الثالث: تعريف المسألة الأصولية، الفرق بينه و بين القاعدة الفقهية 9-10

الأمر الرابع: الكلام في ما هو المعروف من أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية. و المراد من العرض الذاتي، و القول في تمايز العلوم بتمايز الموضوعات 11

الأمر الخامس: موضوع علم الأصول، الإشكال في كونه الأدلة الأربعة و الجواب عنه ثم التعريف بما هو الحق 11-13

الأمر السادس: تعريف الوضع، الفرق بينه و بين استعمال اللفظ، تعيين الواضع، تقسيم الوضع و الموضوع له، وقوع هذه الأقسام. الكلام في وضع اللفظ الكلي. الاستدلال لوقوع الوضع العام و الموضوع الخاص له، و المناقشة فيه، الكلام في لحاظ الاستقلالية في الأسماء و الآلية في الحروف، و المناقشة في كونها من خصوصية المعنى، تعيين الحق في المقام. الأقوال في المعاني الحرفية و اختيار الحق منها. تعيين المراد بما نسب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام المراد من المعاني الحرفية، الثمرة في البحث عن المعاني الحرفية، و المناقشة فيها 13-19

تذنيبات: 19-20

الأول: الأول اتصاف المعاني الحرفية بالإيجادية و الإخطارية، و الكلية و الجزئية و نحو ذلك.

ص: 247

الثاني: تعميم النسب و الإضافات على جميع الموجودات، و الكلام في ذلك.

الثالث: تقسيمات الجملة إلى إخبارية و إنشائية، و قد تستعمل فيهما، و الإخبارية و الإيجادية من الأمور القصدية الكلام في وضع مواد الجمل و وضع هيئاتها.

الأمر السابع: الكلام في الحقيقة و المجاز، الاحتمالات في وضع المعاني المجازية و المناقشة فيها، و الحق أن استعمال المجاز منوط بعدم استنكار أهل المحاورة، عدم انحصار الاستعمال في الحقيقة و المجاز، عدم انحصار العلائق المجازية بل هي دائرة مدار الأذواق السليمة 20-22

الأمر الثامن: تعريف الحقيقة و المجاز، علامات الحقيقة. الأولى التبادر الإشكال عليه و الجواب عنه. الثانية: عدم صحة السلب. الثالثة: الاطراد، قد يقال إن هذه العلامة أيضا تجري في المجاز فلا تكون علامة للحقيقة، الإشكال فيه. 22-23

الأمر التاسع: حالات اللفظ، الرجوع إلى الأصول العقلائية إن اشتبه اللفظ، و هي أصالة عدم القرينة، و أصالة الإطلاق و العموم، و أصالة عدم النقل، أصالة عدم الوضع. و مع عدم جريان هذه الأصول حكم على اللفظ بالإجمال. 23

الأمر العاشر: الدلالة إما تصديقية أو تصورية. تعريفهما، و كلتاهما متوقفان على الإرادة. و عن جمع نفي الدلالة التصورية، الجمع بين القولين. 24

الأمر الحادي عشر: المعاني إما تكوينية أو اعتبارية، أو من المخترعات، و قد وقع نزاع الأصوليين في الأخيرة - دون الأوليين لأنها حقائق لغوية - من جهتين:

الأولى في أنها من المعاني المستحدثة أولا.

الثانية: في أنها مسبوقة بالعدم قبل شرع الإسلام أولا و في القول بالأخيرة يجري نزاع الحقيقة الشرعية فيها. و الحق عدم ثبوت الحقيقة الشرعية في الألفاظ. و كذا الحقيقة المتشرعة خصوصا بعد إثبات كون الألفاظ المستعملة في لسان الشارع حقائق لغوية. 25-26

الأمر الثاني عشر: وقع النزاع في الألفاظ مطلقا - بلا اختصاص للمخترعات الشرعية - و هل

ص: 248

هي موضوعة للمعاني الصحيحة، أو للأعم منها و من الفاسدة؟ و الظاهر هو الأخير و الدليل على ذلك و قد نسب إلى المشهور أن ألفاظ العبادات موضوعة للمعاني الصحيحة و المناقشة في ذلك. 27-33

التنبيه على أمور: 28-31

1 - الصحة و الفساد بما لهما من المعنى العرفي الواقعي يكون مورد البحث في المقام.

2 - الصحة و الفساد من الأمور الاعتبارية الاضافية لهما أفراد طولية و عرضية.

3 - الصحة و الفساد إنما يكون بالنسبة إلى الذات من حيث التقييد بالشرائط، و أما المشخصات فهي خارجة عن الحقيقة، ثم الكلام في الجامع و الأقوال فيه.

الاستدلال للصحيح و المناقشة فيه، الاستدلال للأعم و المناقشة فيه، الثمرة لهذا البحث و الكلام في هذه الثمرة.

الأمر الثالث عشر: ينقسم اللفظ الى متحد المعنى و اللفظ، و المتباين، و المترادف، و المشترك. وقع الكلام في الأخير من جهات ثم الكلام في التثنية و الجمع، و الفرق بينهما و بين المشترك ثم المراد بالأخبار الواردة في أن للقرآن بطونا. 34-37

الأمر الرابع عشر: المشتق: المراد من المشتق، تقسيم الحمل. حالات الموضوع مع المحمول.

37-39

بيان أمور: 39-43

الأول: هل يعتبر في صدق المحمول على الموضوع فعلية تلبس الموضوع بالمحمول؟

الثاني: خروج المصادر و الأفعال عن مورد النزاع، لعدم حملها على الذات. الفرق بين المصدر و الفعل. إطلاق الأفعال بالنسبة إلى اللّه تعالى.

الثالث: في اشتقاق الأفعال، و المناقشة في ما ذكره القوم. الفرق بين المصدر و اسم المصدر و غيرهما.

الرابع: الفرق بين مفاد هيئات الأفعال و مفادها في الأسماء المشتقة.

الخامس: تأسيس الأصل في المسألة الأصولية بحيث يثبت به الوضع

ص: 249

للمتلبس أو للأعم. و المناقشة في ما ذكره القوم، إمكان صحة التمسك بالأصول العملية في المسألة الفقهية.

اختيار الحق في مسألة المشتق - و هو الوضع لخصوص المتلبس - و مناقشة ما يورد على المختار...

أدلة القائلين بأن الوضع للأعم و الجواب عنها. الكلام في بساطة المشتق لحاظا و اعتبارا، و في مقام التبادر اللفظي و مناقشة ما قد يتوهم كونه مركبا في مقام التبادر اللفظي. 43-47

فائدتان: 47-48

الأولى: صحة حمل المشتق بخلاف المبدأ، و يكفي في صحة الحمل حسن الاضافة بين المحمول و الموضوع مطلقا و لكن يعتبر في الحمل المغايرة و الاتحاد في الجملة، و أقسامها

الثانية: لا ريب في أن إطلاق صفات الكمال على اللّه تعالى على نحو الوجوب و التمام و على غيره بالإمكان و النقصان و إنما الكلام في أن هذا الإطلاق على نحو الاشتراك المعنوي أو أنه بمعنى نفي الضد، و الحق هو الأخير، و الدليل عليه.

المقصد الأول - مباحث الألفاظ 51-190

القسم الأول - الأوامر - البحث في الأوامر يقع ضمن أمور - الأول: في مادة الأمر، و فيه جهات من البحث. 51-88

الجهة الأولى: معاني الأمر في اللغة، و هل هو مشترك لفظي أو معنوي ذكر المعنى العرفي الذي منه الاصطلاح الأصولي. 51

الجهة الثانية: تقوم الأمر بالعلو، و أما الاستعلاء فلا دليل عليه، و البحث في ذلك. 52

الجهة الثالثة: اختلاف الطلب و الإرادة مفهوما، و إن الطلب مبرز للإرادة لا أن يكون عينها البحث في اتحاد الطلب و الإرادة إنشاء. 52

الكلام في شبهة الجبر: 53-59

نقل الأقوال في ذلك و المناقشة فيها، أسباب الفعل، بيان المراد من قولهم عليهم السّلام: «الأمر بين الأمرين» و ما ذكر فيه من الوجوه، الجواب عن ما هو المعروف من أن السعيد سعيد في بطن أمه، الجواب عن ما

ص: 250

ورد في الطينة.

الكلام في شبهة تخلف المراد عن الإرادة: 59-60

تقرير الشبهة، ذكر الأجوبة عنها و المناقشة فيها.

الكلام في شبهة الكلام النفسي: 60-61

تقرير الشبهة، و الجواب عنها، ثم المناقشة فيه. و من فروع الكلام النفسي مسألة كون القرآن مخلوقا أو قديما.

الأمر الثاني - في صيغة الأمر، و الكلام فيها من جهات. 62-72

الجهة الأولى: معاني صيغة الأمر، هل أن هذه المعاني من تعدد الوضع، أو أنها من دواعي الاستعمال و المتيقن من تلك المعاني هو البعث نحو المطلوب. 62

الجهة الثانية: الاختلاف في كون الصيغة حقيقة في مطلق الطلب، أو في الوجوب، أو في الندب، الظاهر سقوط هذا البحث برأسه و الدليل عليه. 63

الجهة الثالثة: الجملة الخبرية تكون كصيغة الأمر في إفادة الوجوب إذا وردت مورد البعث. 36

الجهة الرابعة: لا تدل الصيغة لا على المرة و لا على التكرار بأي الدلالات الثلاث إلا إذا دلت قرينة خاصة على أحدهما، ثم بيان مقتضى الأصل العملي فيها. 64

التعرض إلى أمور: منها: بين المرة و الدفعة عموم مطلق في ما إذا أمكن التعدد في متعلق الأمر. 64-65

و منها: حكاية ما ذكره صاحب الفصول في أن نزاع المرة و التكرار بالنسبة إلى الهيئة فقط و المناقشة فيه.

و منها: قد يقال بأن المرة و التكرار خصوص الدفعة و الدفعات ثم ردّه.

و منها: إن القرينة إما أن تدل على المرة و إما أن تدل على التكرار، أو على الإطلاق المحض فيحمل على المرة لانطباقه عليها قهرا، و هل يجوز التكرار عليها.

الجهة الخامسة: الكلام في أن الصيغة لا تدل على الفور و لا على التراخي بشيء من الدلالات، مقتضى آيتي المسارعة و الاستباق حسن المسارعة إلى الامتثال. 65

ص: 251

الجهة السادسة: الواجب إما تعبدي أو توصلي، الكلام في اعتبار قصد الأمر في متعلق العبادة - جزءا أو شرطا - و الإشكال عليه بالدور ثم الجواب عنه. ثم إنه إذا لم يمكن الإطلاق اللفظي يرجع حينئذ إلى الأصل العملي، و الكلام فيه. 66-68

ختام فيه أمور: 69-72

أحدها: تعتبر المباشرة في العبادات، و عدم سقوطها بالمحرم.

ثانيها: إطلاق دليل الوجوب يقتضي كونه عينيا نفسيا تعيينيا، و مقتضى الأصل العملي.

ثالثها: وقوع الأمر بعد الحظر لا يكون من القرينة العامة على الإباحة بل هي تابعة للقرائن الخاصة.

رابعها: إيجاب شيء على المكلف مع انتفاء شرطه قبيح عند العقلاء.

خامسها: في الأمر بالأمر بشيء و استفادة الوجوب بالنسبة إلى المأمور الثاني تابعة للقرائن.

سادسها: إذا ورد الأمر بشيء ثم ورد أمر آخر به قبل امتثاله يكون الثاني تأكيدا للأول، و إن ورد بعد امتثاله فهو إيجاب آخر.

سابعها: لا دلالة لدليل نسخ الوجوب و لا دليل المنسوخ على بقاء الجواز بعد النسخ و الأقوال فيه ثم ردها، ذكر ما تقتضيه الأصول العملية و الحكيمة.

ثامنها: متعلق الإلزام هل هو الطبيعة أو الفرد؟

الأمر الثالث - أقسام الواجب 73-88

القسم الأول - المطلق و المشروط: 73-75

تعريفهما، الفرق بين قيود الوجوب و قيود الواجب، مذهب المشهور في القيود في الواجبات المشروطة، مختار المحقق الأنصاري، نقل استدلاله ثم ردّه، مراتب التكاليف المجعولة.

القسم الثاني: المعلق و المنجز: 75-80

تعريفهما، طرق إحراز كون الوجوب و الواجب مقيدا، علّة اختيار الشيخ و صاحب الفصول لهذا التقسيم، الإشكالات على المعلق

ص: 252

و المناقشة فيها. اختيار الحق في المقام، نقل آراء المحقق الأنصاري و صاحب الفصول و صاحب الكفاية من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، الجواب عن ذلك تحقيق الكلام في وجوه ثلاثة، و الجواب عما يورد عليه.

فوائد: 80-81

الأولى: الواجب المشروط يصير مطلقا بعد حصول شرطه من جهة هذا الشرط فقط.

الثانية: مقتضى الأصل في ما إذا شك في الاشتراط و عدمه.

الثالثة: إذا كان الواجب مشروطا و شك في حصول الشرط و عدمه.

الرابعة: إذا شك في وجوب تحصيل الشرط، مقتضى الأصل فيه، نقل القول بتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة، و الجواب عنه.

القسم الثالث - النفسي و الغيري: 81-83

تعريفهما، طريق إحراز النفسية و الغيرية، ترتب الثواب على الواجب النفسي و الغيري نقل الآراء في ذلك و الجواب عما يورد من الإشكال.

القسم الرابع - التعييني و التخييري: 83-85

تعريفهما، الكلام في تصوير الثاني ثبوتا، نقل الأقوال فيه و الجواب عنها: أقسام التخيير.

القسم الخامس - العيني و الكفائي: 85-86

تعريفهما، الفرق بينهما، قيل إن الواجب الكفائي هو التخييري مع فرق، و المناقشة في ذلك.

القسم السادس - الموسع و المضيق: 86-87

تقسيم الواجب إلى الموقت و غير الموقت، و الأول إما مضيق أو موسع و هو إما فوري أو لا، و التقييد بالوقت إما على نحو وحدة المطلوب أو على نحو تعدد المطلوب. هل إن القضاء يكون بأمر جديد أو على الأمر الأول؟ تحقيق الحال فيه، بعض الإشكالات الواردة و الجواب عنها. إذا شك بعد الوقت في الإتيان بالمأمور به في الوقت و عدمه تحقيق الحكم بحسب الدليل و الأصول.

ص: 253

القسم السابع - الأصلي و التبعي: 87-88

تعريفهما إيجابيا، جريان الأصل عند الشك فيهما حينئذ و يسقطان بالمعارضة، كما يصح تعريفهما سلبيا فلا يجري الأصل حينئذ لكونه مثبتا، و يمكن تعريف الأول سلبيا و الأخير إيجابيا فيجري الأصل و لا تعارض حينئذ، كما يمكن تعريف الأول إيجابيا و الأخير سلبيا فيجري الأصل في الأصلي فيكون مفاده مطابقا للتبعي، مقتضى الأدلة في مقام الإثبات.

القسم الثاني - النواهي 89-105

الأمر الأول: تحقيق الكلام في المراد من النهي. الطلب وجودي و الترك عدمي الإشكال عليه و الجواب عنه، تعلق النهي بالطبيعة، و من لوازمه الفورية و الاستمرار بخلاف الأمر الذي يدل على إيجاد الطبيعة فقط القول بأنهما لا يفترقان إن أخذت الطبيعة مهملة و إلاّ افترقا إن أخذت بعنوان السريان.

الأمر الثاني - اجتماع الأمر و النهي في الواحد حكما تقرير المبحث فقهيا و أصوليا و كلاميا 90

بيان أمور: أولها: الفرق بين هذا المبحث و بحث النهي في العبادات. 90-93

ثانيها: النزاع في المقام صغروي لاتفاقهم على أن تعدد الوجه و العنوان يكفي في رفع التناقض.

ثالثها: المراد من الواحد في عنوان البحث.

رابعها: شمول عنوان البحث لجميع أقسام الأوامر و النواهي، و عدم إمكان تصوير النهي الكفائي و التخييري.

خامسها: اعتبار جمع قيد المندوحة، و عن آخرين عدم اعتباره، الجمع بين الكلمات.

سادسها: المشهور أن المقام من موارد التزاحم لا التعارض، أدلة المشهور.

المشهور القول بتغليب جانب النهي ملاكا و خطابا، الإشكال عليه و الجواب عنه 93

الاستدلال على جواز الاجتماع بأمور و الجواب عنها 94-97

ص: 254

الاستدلال على الامتناع 97-99

ختام فيه أمران 100-105

الأمر الأول: لو اضطر إلى الكون في المحل المغصوب، التفصيل بينما إذا لم يكن بسوء اختياره فيجب الخروج إن تمكن و إلاّ يحرم، و ما إذا كان بسوء الاختيار، فالبحث حينئذ يقع تارة في حكم خروجه عرفا و أخرى بحسب مسألة اجتماع الأمر و النهي بناء على الجواز و ثالثة بحسب تلك المسألة بناء على الامتناع تفصيل ذلك، و حكم الصلاة حال الخروج 100-103

الأمر الثاني: اجتماع الاحكام في واقعه، تفصيل الحكم فيه تارة بحسب القول بالجواز، و أخرى بحسب القول بالامتناع على الأخير فقد قيل بتغليب جانب الحرمة في مورد الاجتماع أما لدليل أو لقرينة عامة أو لأصل عملي تفصيل ذلك. 103-105

ثمرة البحث في مسألة الاجتماع 105

القسم الثالث - المفاهيم 106-124

تمهيد فيه أمور 106-108

الأول: لفظ المفهوم من الأمور المحاورية العرفية، الدلالية و المدلولية من الأمور الإضافية.

الثاني: المفهوم إما موافق أو مخالف

الثالث: مورد البحث في المفهوم، النزاع فيه إنما هو صغروي، إمكان إدخال بحث المفاهيم في مباحث الملازمات.

الرابع: تأسيس الأصل في المسألة الأصولية و المسألة الفرعية

عدد المفاهيم 108

الأول - مفهوم الشرط 109-116

ثبوت المفهوم للجمل الشرطية متوقف على قيود ثلاثة، الأدلة على بيان قاعدة كلية في جميع القضايا الشرطية و المناقشة فيها، الاستدلال على انتفاء المفهوم للشرط و ردّه.

مبحثان

المبحث الأول 111-112

ص: 255

الشرط و الجزاء إما متحدان أو يكون الشرط واحدا و الجزاء متعددا أو بالعكس، و الكلام وقع في القسم الأخير، فهل يقيد إطلاق كل واحد من الشرطين بالآخر، أو يكون كل واحد شرطا مستقلا؟ الدليل على كل منهما

المبحث الثاني 113-116

إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء، فهل يتعدد الجزاء بتعدد الشرط؟

بيان أمور 113

أحدها: الشروط المتعددة إما من صنف واحد أو لا، و على كل منهما فإما أن يكون المحل قابلا لتعدد الجزاء أو لا.

ثانيها: تداخل الأسباب، و تداخل المسببات

ثالثها: ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط إلاّ مع القرينة على الخلاف، و هي على قسمين:

القسم الأول: القرينة الخاصة و هي في موارد مخصوصة 113

القسم الثاني: القرينة العامة، و هي كثيرة و المناقشة فيها 114-115

تذنيبان

الأول: تعيين المرجع في حالة الإجمال، و عدم استظهار تعدد الجزاء مع تعدد الشرط.

الثاني: قد ورد الدليل على كفاية جزاء واحد عن شروط متعددة في موارد خاصة

الثاني - مفهوم الوصف 117-119

الثالث - مفهوم الغاية 120

البحث في الغاية من جهتين: الأولى: دخول الغاية في المغيّا، التحقيق في المقام. الثانية: هل تدل الغاية على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية؟

الرابع - مفهوم الاستثناء 121-123

المراد من مفهوم الاستثناء، المناقشة في ذلك و الجواب عنها.

الكلام في كلمة التوحيد، بعض أدوات الاستثناء.

الخامس، و السادس - مفهوم اللقب و العدد. 124

المراد من مفهوم اللقب، الكلام في اعتبار مفهومه

ص: 256

أقسام العدد، الكلام في اعتبار مفهومه

القسم الرابع - العام و الخاص 125-150

تعريف العام و الخاص 125

أقسام العموم 126

ألفاظ العموم 127

استعمال الخاص في المخصص 127-128

أقسام إجمال المخصص و أحكامها 129-132

إذا كان العام مبينا و الخاص مجملا، أقسامه، الجواب عما يورد عليها من الإشكال.

ختام فيه أمور 134-137

الأول: إذا سلب عنوان الخاص عن الفرد المردد، مثل ما ورد في أن المرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلا إذا كانت امرأة قرشية فتراها إلى ستين جريان الأصل الأزلي، المناقشة في هذا الأصل و الجواب عنها الثاني: دفع ما يورد من الإشكال على ما ذهب إليه المشهور من القول بالضمان في ما إذا ترددت اليد بين كونها أمانية أو ضمانية

الثالث: إذا علم بخروج فرد عن حكم العام و شك في أنه لأجل التخصص أو التخصيص جريان الأصل و رده

الرابع: التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص الكلام في ذلك الخطابات الشفاهية 137-140

وقوع الكلام في ذلك من نواح ثلاثة: في أصل جعل القانون، و من ناحية الخطب، و من ناحية البعث و الزجر بيان الثمرة و المناقشة فيها

تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده 140-141

إذا شك في الضمير المتعقب للعام أنه يرجع إلى تمام أفراده أو بعضها، فيجري أصلان متعارضان، و عن الكفاية تقديم أصالة العموم المناقشة في ما ذكره، الجواب عما يورد من الإشكال.

تخصيص العام بالمفهوم 142

الاستثناء المتعقب لجمل متعددة 142

تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد 143

ص: 257

الدوران بين التخصيص و النسخ، أقسام صدور الخاص و العام 144

النسخ 146

البداء 148-150

القسم الخامس - المطلق و المقيد و المجمل و المبين 151-163

المطلق و المقيد 151

تعريفهما، الإطلاق و التقييد من شئون المعاني، و هما من الأمور الإضافية، الكلام في الاعتبارات الثلاثة المعروفة: بشرط شيء، و بشرط لا، و لا بشرط. و هل المطلق هو اللابشرط المقسمي أو القسمي؟

ألفاظ المطلق 153

مقدمات الحكمة 156

التنبيه على أمور: 157-159

الأول: ما يتعلق بالقدر المتيقن

الثاني: ظاهر حال كل متكلم أنه في مقام بيان مراده، و ما يتعلق به

الثالث: الاحتياج إلى مقدمات الحكمة إنما هو لنفي القيد و البشرطشيئية لا لنفي غيره.

الرابع: طرق إحراز الإطلاق من كلام المتكلم.

الخامس: جريان مقدمات الحكمة في المعاني الإفرادية و التركيبية و الإنشائية، الكلام في المعاني الربطية و التبعية.

السادس: عدم اتصاف الأعلام الشخصية من حيث التشخص بالاطلاق و التقييد.

السابع: تعدد الإطلاق و التقييد في كلام واحد من جهات متعددة.

الثامن: سقوط احتمال ورود التقييد المعصومي لإطلاقات الكتاب و السنة بعد الغيبة الكبرى.

التقييد: 159-161

التقابل بينه و بين الإطلاق، الإشكال على كون التقابل من قبيل السلب و الإيجاب، صدق المطلق على المقيد

ص: 258

ختام فيه أمران 161-162

الأول: يعتبر في حمل المطلق على المقيد إحراز وحدة التكليف و ثبوت التنافي بينهما.

الثاني: تحقق موضوع التقييد في كل ما ورد لبيان الجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية. جريان أقسام إجمال المطلق و المقيد.

المجمل و المبين 163

تعريفهما، تعيينهما بحسب المصداق، حكمهما

القسم السادس - التعارض 164-192

سبب ذكر هذا المبحث في مباحث الألفاظ

أمور تمهيدية 164-173

الأول: مفهوم التعارض، النسبة بينه و بين التناقض و التضاد، منشأ حصول التعارض في الأخبار و غيرها.

الثاني: التعارض من صفات المدلول و يسري الى الدلالة و الدليل لمكان التضايف بينها، الجواب عما يتوهم خلاف ذلك.

الثالث: تعريف التزاحم و التعارض، و اشتباه الحجة بغير الحجة

الرابع: ما يتعلق بالنص و الأظهر و الظاهر. تعريف الورود و الحكومة، تقسيمات الحكومة، الفرق بين التخصيص و الحكومة بوجوه ثلاثة

الخامس: تقديم الخاص على العام مطلقا سواء كانا قطعيين أو ظنيين أو بالاختلاف

السادس: ما يتعلق بالقضية المعروفة (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) الاستدلال عليها. المراد من الإمكان و الجمع.

السابع: النص و الظاهر إما أن يكونا معلومين أو مشكوكين أحكامهما، الرجوع إلى القرائن العامة في بعض الموارد، و المناقشة فيها.

حكم المتعارضين 173-187

سبب ذكر حكم التعارض في المبادئ أو في ختام المطلق و المقيد.

التعارض من الأمور المحاورية. التماس حكمه من السيرة العقلائية.

ما ورد في حكم المتعارضين من الشارع الأقدس و هو على أقسام:

منها: ما يدل على الأخذ بالأخير، و المناقشة فيه 175

ص: 259

و منها: ما يدل على التوقف و الجواب عنه 175

و منها: ما يدل على الأخذ بما وافق الاحتياط و ردّه 177

و منها: ما يدل على التخيير و الجواب عنه 177

و منها: مقبولة عمر بن حنظلة الإشكال عليها و الجواب عنه

178-181

بيان أمور 181-187

الأول: أنواع المرجحات المذكورة في المقبولة، الإشكال عليها و الجواب عنه المراد من مخالفة العامة.

الثاني: المراد من موافقة الكتاب

الثالث: هل يمكن التعدي من المرجحات المنصوصة إلى كل ما يحصل به الاطمئنان؟ الدليل على ذلك

الرابع: سقوط الترتيب بين المرجحات المنصوصة بناء على التعدي، الجواب عما يورد من الإشكال

الخامس: أقسام الشهرة

السادس: معاملة المرجح مع الظن إن لم يقم دليل على اعتباره و لا على عدم اعتباره

حكم المتعارضين بعد التكافؤ 187

الاحتمالات في المتعارضين بعد التكافؤ، الرجوع إلى بناء العقلاء،

أقسام التخيير

الإشارة إلى أمور 188-189

أحدها: عدم اختصاص التخيير بزمان الغيبة بناء على كونه عقلائيا الكلام في ذلك.

ثانيها: التخيير لا يكون إلاّ بعد الفحص عن المرجحات و اليأس عنها

ثالثها: اختصاص موضوع التخيير بالمجتهد

رابعها: الجواب عما يتوهم من حمل أخبار الترجيح على الاستحباب و الأخذ بإطلاق أخبار التخيير.

موضوع حكم التعارض 190

اختصاص حكم التعارض بالمتباينين فقط فلا يجري في غيره تحقيق

ص: 260

الكلام فيه.

حكم التعارض إن كان بين أكثر من دليلين 190

التعرض لبعض صور التعارض بين الأدلة، و هي كثيرة 191

المقصد الثاني - الملازمات العقلية 195-251

تمهيد 195-197

المباحث المتعلقة بالعقل: أنه مناط التكليف، الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، الملازمات العقلية غير المستقلة و هي أمور، بناء العقلاء.

الأمر الأول - الإجزاء 198-203

تمهيد فيه أمور 198-199

الأول: لا ربط لهذا البحث بمبحث المرة و التكرار، و لا بمبحث تبعية القضاء للأداء.

الثاني: الاستغناء عن كلمة (على وجهه) الواردة في عنوان البحث.

الثالث: هذا البحث يشمل الأمر الواقعي و الاضطراري، و الظاهري و الاعتقادي.

الرابع: المراد من الامتثال

البحث في مسألة الإجزاء من جهات 199-201

الأولى: في سقوط كل أمر مطلقا بالنسبة إلى امتثاله

الثانية: إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن التكليف الواقعي، تفصيل الكلام فيه.

أمور تتعلق بالتكاليف الاضطرارية 2001-203

منها: المناط في الاضطرار و العذر هل هو صرف الوجود أو العذر المستوعب؟

و منها: إذا ترك التكليف الاضطراري و أتى بالتكليف الواقعي.

و منها: في الاضطرار الشخصي أو النوعي

الجهة الثالثة: الإجزاء بما يصح الاعتذار به عن الواقع، كالأمارات و الأصول و القواعد. إشكال و جواب.

الجهة الرابعة: العمل بما حصل به الاعتقاد مع تبين الخلاف.

ص: 261

الثاني - مقدمة الواجب 204-221

تقرير البحث في مقدمة الواجب

تقسيمات المقدمة 204-210

التقسيم الأول: المقدمة إما داخلية أو خارجية أو برزخ بينهما، تفصيل الكلام في ذلك

التقسيم الثاني: المقدمة إما شرعية أو عقلية أو عادية أو مقدمة الصحة، أو مقدمة الوجوب أو مقدمة الامتثال، رد هذا التقسيم و الدليل عليها.

التقسيم الثالث: المقدمة إما مقارنة أو متقدمة أو متأخرة الموارد التي انتقضت في الفقه فيها قاعدة تقديم العلة على المعلول و مقارنتهما، الجواب عن الشبهة بوجوه و المناقشة فيها، التحقيق في الجواب.

الأقوال في وجوب المقدمة 210-214

الأول: إن معروض الوجوب لعنوان المقدمة هو ذاتها.

الثاني: إنه ذات المقدمة عند إرادة ذيها الإشكال عليه.

الثالث: إنه ذات المقدمة مع قصد التوصل إلى ذيها، ذكر المحتملات من هذا القول، الإشكال عليها.

الرابع: اعتبار ترتب ذي المقدمة خارجا على المقدمة الإشكال عليه بوجوه، و إبطالها، التحقيق في المقام.

الثمرة بين كونها من المسألة الأصولية أو غيرها 214-217

و هي كثيرة الإشكال عليها و الجواب عنها

إجراء الأصل في المقدمة 217

الحق في المقام 217

مقدمة المندوب و الحرام 219

خاتمة البحث 220

تحقيق القول في الثواب على جملة من مقدمات الواجبات و المندوبات، و الكلام في مقدمات الحرام.

الثالث - اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده 222-241

تقرير المبحث المراد من الاقتضاء و الضد.

الأقوال في المسألة 223-228

1 - الترك 223

ص: 262

القول بالعينية، رده، و القول بالدلالة التضمنية، إبطاله. القول بالملازمة.

2 - الضد العام و الخاص 224

الاستدلال على الاقتضاء فيهما من وجهين: من جهة الملازمة، و ردّه.

و من جهة المقدمية نقل الأقوال فيه، ذكر ما أشكل على القول بأن ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر و الجواب عنه، ذكر شبهة الكعبي و إبطالها.

ثمرة البحث في مسألة الضد 229

فساد العبادة إذا كانت ضد الواجب الأهم بناء على الاقتضاء، و أما بناء على عدمه فلا وجه للفساد و عن الشيخ البهائي بطلان الثمرة تخصصا الرد عليه.

بحث الترتب 231

تعريفه، النزاع في الترتب، شروط الترتب

الكلام في جواز الترتب 233

إما بحسب الدليل العقلي، و إما بحسب الاستظهار الأصولي و إما بحسب الاعتبار العرفي.

أدلة القائلين بامتناع الترتب و الجواب عنها 234-237

الرابع - النهي عن الشيء هل يوجب الفساد، و هو على قسمين 238 - 246

القسم الأول - النهي في العبادة 238

تمهيد 238

تقرير المبحث، تغايره مع بحث اجتماع الأمر و النهي

التنبيه على أمور: 239-241

الأول: إطلاق النهي يشمل جميع أقسامه، الكلام في النهي التبعي

الثاني: المراد من العبادة و أقسامها

الثالث: النسبة بين الصحة و الفساد و كونهما من الأمور الاعتبارية الإضافية

الرابع: كيفية تعلق النهي بالشيء.

الدليل على اقتضاء النهي في العبادات الفساد 241-243

ص: 263

الدليل إما بحسب العرف أو من حيث الأصل. إما في المسألة الأصولية أو في المسألة الفقهية، بعض الإشكالات الواردة و الجواب عنها.

القسم الثاني - النهي في المعاملات 244-246

أقسام النهي في المعاملات، الاستدلال للفساد و الجواب عنه، القول بدلالة النهي على الصحة و ردّه.

ص: 264

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.